الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع عشرالرجوع إلى "الرسالة"

مواطن الحياة الاولى

Share

(١) المواطن الساحلية

في وسعنا أن ننظر إلى عملية التطور السامية من ناحية جديدة،  فقد سهلت للحيوان أن يخضع لسيطرته جميع الأماكن الملائمة  للحياة، ويجعل المحيط خادماً لمصلحته ومصلحة نوعه.

يظن أن العضويات الحية استوطنت السواحل البحرية أولا  لما فى تلك المناطق من ظروف ملائمة للحياة، فهي قليلة الغور  غنية بالنور والهواء والغذاء ولاسيما أن الأعشاب البحرية النامية فى  تلك الأماكن تجهز المواد الغذائية بمقياس واسع. إن هذه المناطق  مأهولة فى الوقت الحاضر بممثلي جميع أصناف الحيوانات تقريبا  من النقاعيات ( infusorians) إلى الطيور الساحلية واللبائن.

(٢) المواطن البحرية

إن الموطن البحري يشمل جميع سطوح المياه الغنية بالنور عدا  المناطق الساحلية القحلة. ويظن أن الحيوانات استوطنت هذه  الأماكن لتجانسها ووفرة ما فيها من خزيات مجهرية ( Algae)  تصلح طعاما لها. إن هذه النباتات المجهرية تستمكن فى أجسام  حيوانات دقيقة كالقشريات البحرية ( Open-sea crutaceans) التى تعتاش عليها الأسماك، وهذه بدورها تصبح طعاماً للسلاحف  المفترسة والحيتان ذوات الأسنان. وبهذا الاعتبار يظن أن البحر  المكشوف كان المواطن الأصلي للحياة. وقد يكون الأستاذ  (شرش church) على صواب فى تصوره أن الحياة البحرية تقدمت  على الحياة الساحلية.

(٣) أعماق البحار

يظن أن قعر البحار العميقة كان موطنا ثالثا للحياة؛ ففي ذلك  المحيط البارد وفي ذلك الشتاء الدائمي والظلام الدامس الذى لا يضيء  فيه غير بريق الحيوانات الفسفورية الضئيل، وتحت ذلك الضغط  الهائل - طنان ونصف طن على البوصة المربعة الواحد فى عمق  15000 قدم - وبين ذلك السكون العميق وفي تلك الوحدة  الرهيبة. أجل فى تلك الظروف كانت الحياة تقضي شطرا من  أدوارها. وربما جرى استعمار هذه اللجج العظيمة الغور فى عصور  حديثة العهد نسبة؛ لأن الحيوانات التى نعثر عليها فى هذه الأماكن

لا تشمل أصنافا قديمة جدا ؛ ويرجح أن الحيوانات الساحلية هى التى استعمرت هذه الاماكن بتتبعها لبقايا الطعام خلال أجيال عديدة.

(٤) المياه العذبة

تشمل المياه العذبة جميع الانهار والبحيرات والبرك والمستنقعات والغدران ، وربما حصل استعمار هذه المياه بهجرة بعض الحيوانات الصورة تدريسية الى مصيات الانهار ، أو بالزحف المباشر فى ساحل البحر الى الغدير .

(٥) استيطان اليابسة

قامت بعض الحيوانات الساكنة فى البحر أوفى المياه العذبة على ممر العصور باستطان اليابسة تدريجيا، ويجب ان نميز ثلاث غزوات كبيرة قامت بها الحيوانات وهى:

أ- غزوة الديدان : ونتيجتها إخصاب الارض . ب- غزوة الحشرات : ونتيجتها تأسيس الرابطة بينها وبين الزهور .

جـ- غزوة البرمائيات(1) : ونتيجتها نشوء الحيوانات البرية الراقية ونمو الذكاء والحب العائلي .

وهناك غزوات أخرى أقل من تلك شأنا ولكن جميعها تدلنا  على أن الحيوانات المائية تميل إلى احتلال اليابسة وتحاول استعمارها  بشتى الطرق.

إن للنزوح إلى اليابسة مزايا عظيمة، ذلك لأنه كان بمثابة  التوصل إلى محيط فيه مقدار من الاكسجين أكثر مما هو مذاب  فى الماء. غير أن التسلط على أكسيجين الهواء أمر صعب نوعا ما، ولما كانت حياة اليابسة تكيف جسم الحيوان فتجعله أكثر صلابة  وأفضل وقاية كان لابد من تكون سطوح داخلية فى جوف الحيوان  تمكن الدم من أخذ الأوكسجين وإيصاله إلى جميع أنحاء البدن وهكذا  نشأت الرئتان. فى أغلب الحيوانات يذهب الدم إلى السطوح المعدة  لاتصال الأكسيجين، أما فى الحشرات واتباعها فطريقة أخذ  الأكسيجين إلى الدم أو إلى الأنسجة تختلف عن ذلك. ففي هذه  الحشرات توجد أنابيب متشعبة تتوزع على جميع أنحاء البدن، ووظيفتها  أخذ الهواء من المحيط. يفسر لنا هذا التنفس الكامل مغالبة هذه  الحشرات التى تكون دمها نقيا على الدوام.

ان استطان اليابسة أدى أيضا الى تكيف الحركة الانتقالية في الحيوان على النحو الذي نراه الآن . فصار الحيوان يدفع جسمه

الى الأمام مستندا إلى الارض , وتكونت ف جسمه سلسلة من العتلات ( الروافع ) وهكذا تصلبت أجسام معظم الحيوانات البرية واصبحت تستند الى الارض بمنتهيات صغيرة نسبيا - هى الانامل - حتى لا تدع مجالا لانبطاح الجسم أو تدليه الى الأرض، فحيوان كقنديل البحر ( Jelly-fish ) مثلا يعيش فى المياه ويستطيع أن ينتقل فيها بسهولة ، ولكن يتعذر عليه أن يعيش فى اليابسة لان تركيب جسمه لا يساعده على الحركة الانتقالية فى البر . وربما تبادر الى الذهن أن بعض الحيوانات البرية تشذ عن التكييف الذى تستلزمه حياة اليابسة - كديدان الارض وام الاربع والاربعين ( Centipades ) والافاعي . ان شرح الحركة الانتقالية في هذه الحيوانات ليس بالأمر الصعب , فدودة الارض تحفر طريقها فى التربة كما يفعل اللولب، و جسم أم الاربع والاربعين يحمل على عدة أرجل قوية ، كما أن الحية تدفع نفسها الى الأمام بواسطة حراشف بطنية واسعة متصلة بمنتهيات عظمية متشعبة فى العمود الفقرى.

الضرورة وحب الاستطلاع

ويهمنا أن نبحث الآن فى مجازفات الحياة على اليابسة، لان ذلك  يمكننا من فهم الدواعي التى حملت عددا عظيما من الحيوانات البرية  على حفر أوكارها فى التراب، وعددا آخر منها على تسلق الأشجار،  ولماذا رجع بعضها إلى الحياة المائية ولجأ البعض الآخر إلى الهواء،  وربما تبادر إلى أذهاننا أن نتساءل لماذا استعمرت اليابسة رغما  عما فى ذلك من مجازفات ومخاطر عظيمة؟ الجواب على ذلك: "أن  الضرورة وحب الاستطلاع هما أبوا الاختراع!" فقد تكون  الدواعي التى حملت بعض الحيوانات على ترك الحياة المائية هى من  قبيل جفاف الغدران أو ازدحامها بعدد لا تستوعبه من الحيوانات،  أو الهرب من الأعداء الكامنة لها بالمرصاد، ولكن يجب  ألا نتغاضى أيضا عن غريزة حب الاستطلاع التى كانت ولم تزل  عاملا مهما من عوامل التقدم.

(٦) غزو الهواء

وأخيراً لجأت الحيوانات إلى الهواء فنجحت فى غزوه الحشرات  والعضايا المجنحة القديمة (Pterodactyls) والطيور والوطاويط  وأخفقت غيرها فى تلك المحاولة كما نرى ذلك جليا فى الأسماك الطائرة  التى تقفز فى المياه إلى علو بضع يردات، تساعد على ذلك زعانف  كبيرة تنشرها عند القفز، وهذا ما نجده أيضاً فى الضفادع الطائرة  (Rhacophorus)التى تطير من غصن إلى آخر. وهناك كثير من أمثال هذه الحيوانات التى يستدل منها على محاولة الحيوان فى الماضي

التغلب على الهواء ذلك الأمر الذى أدركه الانسان عن بعد بطريقة أوجدها من عنده .

لاشك أن المقدرة على الطيران لها مزايا وفوائد عديدة، فالطير  الذى يعتاش على ما فى الأرض يستطيع أن يهرب من الكواسر الداهمة  بارتفاعه السريع فى الهواء، وفي وسعه أن يتتبع الأماكن التى  يكثر فيها الطعام والماء مهما كانت بعيدة، وفي إمكانه أن يضع  بيضه فى مواقع أمينة لا تصل إليها أيدي الأعداء. وقد استطاعت  الطيور بهجراتها أن تتغلب على الزمان والمكان فكثير منها لا  يعرف شتاء طول حياته.

نظام الطبيعة المتطور

وللتطور صفحة واضحة أخرى وهى ميله لربط الاحياء بعلاقات حيوية مهمة ، والزهور مرتبطة بضيوفها من الحشرات ارتباطا حيوياً وثيقا فيه منفعة مشتركة للفريقين . وهناك طيور تعتاش على ثمر العليق فتنشر البذور . وهكذا يحافظ على نسل النبتة ، ونعلم أيضا أن الحلزون المائى النحيف يكون مأوى لدودة الكبد ( التى توجد فى الاغنام ) فى أدوار حداثتها ، وأن البعوض يحمل جرثومة الملاريا وينقلها من شخص الى آخر بواسطة اللسع .

ونستطيع أن نجد علائم التعاون ظاهرة بين بعض الحيوانات  المتشابهة فتكون مستعمرات أو طوائف أو متجمعات كما هو بارز  فى النحل والنمل واللبائن، وفي كل ذلك مصلحة مشتركة للأفراد  المتعاونة.

على أن هناك علاقات تكون فيها المصلحة لجهة واحدة كما هى الحالة فى  الحشرات التى تفسد العمليات التناسلية لبعض النباتات التى تحط  عليها، وزيادة على ذلك أن الحلقات الغذائية تربط مجموعة من  الحيوانات كما هى الحالة فى سمك القد (Cod) الذى يعيش على القوقع  (whelk) والقوقع على الدودة والدودة على البقايا العضوية  فى البحر.

نسيج الحياة

لقد أصبحت العلاقات المسيطرة على النظام الطبيعي متناهية فى  التعقيد، وكان التطور العامل المشجع الأكبر لذلك التعقيد. فأمست  بنية الإنسان أعقد من جميع الكائنات الحية، ويتراءى لنا أن نظام  التطور قضى على الوحدة والتشابه، وكون تنوعات جديدة ذات صفات  ومؤهلات تختلف فى بعضها باختلاف المحيط الذى تعيش فيه، وهكذا  سجلت خطوات الارتقاء على لوحة الطبيعة وأصبحت الكائنات  الحية فى مأمن من النكوص على الأعقاب فى سلم التطور،

اشترك في نشرتنا البريدية