الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامسالرجوع إلى "الرسالة"

نظرات فى الأدب الفارسلا، منذ نشأته الى إغارة التتار

Share

مهما تختلف الآراء فى تاريخ أقدم أثارة من الأدب الفارسى  الحديث فان مؤرخا يستطيع أن يقول أن ظهور هذا الأدب صحب  ظهور الأمارات الوطنية فى إيران، فهذه الأمارات بعثت الأمل  فى نفوس الفرس وأتاحت لهم فرصة يستطيعون فيها التقرب  بالمدائح وغيرها الى أمراء يفهمون عنهم، ويعجبون بهم، ويسرهم أن  تحيا آداب لغتهم وآثار آبائهم.

وأمر آخر يسترعى نظر مؤرخ الآداب الفارسية، هو ظهور  هذه الآداب فى الديار النائية عن البلاد العربية وعن بغداد حاضرة  الخلافة والمدنية الأسلامية، اذ كانت هذه الديار أبعد من سلطان  الأدب العربى الذى كان ترجمان حضارة الاسلام كلها حقبا طويلة.  ثم استقلال الإمارات كذلك يبدأ فى الأقطار النائية، وإنما تنقص  الأرض من أطرافها. ومن أجل ذلك أتيح لخراسان البعيدة مهد  أول دولة فارسية عظيمة فى العصر الإسلامى أن تكون مبعث  الأدب الفارسى الحديث. ولم تنل هذا الشرف فارس مهد الدول  القديمة على تبريزها فى العلم وتقدمها على خراسان فيه. حتى يقول  أبو أحمد الكاتب كاتب الأمير اسماعيل بن احمد الساعاتى : لا تعجبن لعراقى رأيت له   بحرا من العلم أو كنزا من الأدب واعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه   إن كان يفرق بين الرأس والذنب

يريد ببلاد الجهل ما وراء النهر وجهات خراسان. ولى المأمون طاهر بن الحسين خراسان ثم جعلها ولاية لذريته  فاستمروا يلونها حتى سنة ٢٥٩ نحو ٥٠ عاما. ولكنها كانت أمارة  صغيرة قصيرة المدة. وكانت الأسباب لم تتهيأ لانبعاث الأدب  الفارسى. ثم بنو طاهر لم يعنوا بالأدب الفارسى، وروى أن رجلا  أهدى كتابا الى عبد الله بن طاهر وهو فى نيسابور فسأله ابن طاهر  ما هذا ؟ قال قصة (وامق وعذراء) التى ألفها بعض الحكماء للملك

أنوشروان، فقال الأمير: نحن قوم نقرأ القران ولسنا فى حاجة  الى غير القران والحديث. فما لنا ولهذه الكتب التى ألفها المجوس ؟ ثم أمر فألقى الكتاب فى الماء، وأمر أن يحرق كل كتاب فى  ولايته بلغة المجوس. ويقول عوفى عن آل طاهر: أنهم لم يكن لهم  اعتقاد فى لغة الفرس.

وفى سنة ٢٤٧هـ سنة موت المتوكل ظهر فى الشرق يعقوب بن  الليث الصفار وهزم جند الخليفة أول الأمر وقال (كما يروي نظام  الملك) إنه يريد خلع الخليفة، وكان شيعيا فيما قال، وخلفه  أخوه عمرو الى أن استنجد الخليفة المعتمد بنى سامان فهزموه  وأزالوا دولته.

والفرس يرون فى يعقوب بطلا فارسيا لأنه أول ثائر على  الخلفاء. أقام سلطانه على رغمهم اكثر من أربعين عاما. وقد سوغت  لهم هذه العقيدة أن نسبوا الى طفل ليعقوب أنه نطق بأول بيت من  الشعر الفارسى الحديث، وفى الحق أن بلاد الفرس لم تعد الى حكم  الخلفاء الحقيقى بعد ثورة يعقوب.

ولكن أول دولة فارسية عظيمة لها أثر يذكر فى الأدب  الفارسى كانت الدولة السامانية. والسامانيون ينتسبون الى بهرام  جوبين أحد أعيان الفرس الذى ثار أيام الساسانيين على كسرى برويز، والبيرونى يؤيد هذه النسبة. وقد بعثت الآداب الفارسية  مع هذه الدولة - فيما نعلم -

وبينما كان السامانيون متسلطين فى خراسان وما وراء النهر  ظهر بنو بويه وعظم سلطانهم حتى استولوا على بغداد سنة ٣٣٤،  وساقوا نسبهم الى بهرام كور أحد ملوك السامانيين؛ وما زالوا  يصرفون الأمر حتى أديل منهم للغزنوية ثم للسلاجقة .

ظهرت دولة بنى سبكتكين فى غزنه وأديل لهم من سادتهم  السامانيين أو - كما يقول بديع الزمان

أظلت شمس محمود   على أنجم سامان وسبكتكين تركى لا فارسى ولكنه مكن لنفسه فى بلاد الفرس، وكان  لدولته شأن عظيم فى آدابهم. وجاء السلاجقة فنسخوا كل هذه الدول،  وكان لهم من السلطان وبسطة الملك ما لم يتح لدولة قبلهم من غير  الخلفاء؛ وكان مع هؤلاء أو بعدهم دول ذات شأن : منها

الدولة الزيارية فى طبرستان التى منها شمس المعالى قابوس بن  وشمكير وابنه منوجهر فلك المعالى وحفيده كيكاوس عنصر المعالى،  ودولة ملوك خوارزم الصغيرة التى قضى عليها محمود، وملوك خوارزم  العظام الذين تسلطوا على معظم إيران قرنا وربع قرن والذين كانوا  سببا فى إغارة التتار وكانوا أول هلكاهم، والدولة الغورية التى قضت على الغزنويين فى أفغانستان.

هذه هى الدول التى صرفت أمور الفرس منذ القرن الرابع  الهجري، ويرى منها أن الفرس لم يفلحوا فى إقامة دولة عظيمة تضم  أرجاء بلادهم، وإنما كان السلطان الشامل لدولتين تركيتين الغزنوية  والسلاجقة، وما عرفنا أن ثورات فارسية عظيمة حاولت التخلص  من هاتين الدولتين، وهذه مسألة جديرة أن تغير آراء الذين يريدون  تفسير كل حركة فى إيران فى تلك القرون بالعصبية الفارسية .

الآن نرجع الى الأدب الفارسى نراقب منشأه وتعقب تطوره منذ بدأ الى عصر التتار؛ فاما ما يعد التتار فنرجئ الكلام فيه الى مقال آخر .

إنا لا نعرف شيئا عن الشعر الفارسي قبل الإسلام حتى ليظن  أن الفرس لم يكن لهم منه حظ كبير، ولأمر ما نسب بعض كتاب  الفرس أول شعر فارسي إلى بهرام جور، وقالوا: أنه اخذ الشعر  من العرب إذ تربى فى الحيرة. يذكر هنا محمد عوفي فى لباب الألباب  وشمس قيس فى كتاب المعجم، ويزيد الأخير أنه قرأ فى بعض الكتب  الفارسية أن علماء عصر بهرام لم يستهجنوا منه الا قول الشعر، وأن  آذرباد بن زرادستان الحكيم بالغ فى نصحه ليترك الشعر تنزها عن  معايبه؛ ثم يقول أن بهرام انتصح ومنع أولاده وذوي قرباه أن  يقرضوا الشعر. ثم يقول: من أجل هذا كانت مدائح باربد  وأغانيه عند كسرى برويز كلها منثورة لا نظم فيها.

ويقول ابن قتيبة:  (وللعرب شعر لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيه على  الأوزان والأعاريض والقوافي والتشبيه ووصف الديار والآثار،  والجبال والرمال والفلوات وسرى الليل، والنجوم. وإنما كانت  أشعار العجم وأغانيهم فى مطلق من الكلام (منثور) ثم سمع  بعد قوم منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا  مثل ذلك فى الفارسية وشبهوه بالعربية.)

وأما فى العصر الإسلامي فلا ريب أن الشعراء الذين يعرفهم تاريخ  الأدب لا يتقدمون العصر الساماني. غير أن فى كتب الأدب الفارسي  روايات عن شعر قيل قبل هذا العهد، وهي على علاتها لا تخلو من  دلالة على أدب فارسي أقدم مما نعرف عسى أن يبينه التاريخ يوما.

يقول محمد عوفي معللا ظهور الشعر الفارسي الحديث ما يأتي  مترجما مختصرا: (حتى إذا سطعت شمس الملة الحنيفية على بلاد  العجم جاور ذوو الطباع اللطيفة من الفرس فضلاء العرب

واقتبسوا من أنوارهم ووقفوا على أساليبهم واطلعوا على دقائق  البحور والدوائر وتعلموا الوزن والقافية والردف والروي والايطاء  والإسناد والأركان والفواصل. ثم نسجوا على هذا المنوال

ثم يروي أبياتا أربعة لشاعر اسمه عباس مدح بها المأمون  فى مرو سنة ١٩٣ منها:

كس برين منوال بيش ازمن جنين شعري نكفت        مر، زبان بارسي را هست تا اين نوع بين  ليك زان كفتم من اين مدحت ترا تا اين لغت         كيرد أز مدح وثناء حضرت تو زيب وزين

وترجمتها:  ما قال أحد قبلي شعرا كهذا وما كان للسان الفارسي عهد به،  وإنما نظمت لك هذا المديح لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

فأعطاه المأمون ألف دينار عينا، وبالغ فى اكرامه - يستمر  عوفي فيقول: (ولم ينظم الشعر الفارسي أحد بعده حتى كانت نوبة  آل طاهر وآل الليث فظهر شعراء قليلون، فلما كانت دولة السامانيين  ارتفع علم البلاغة، وظهر كبار الشعراء .

ويروي شمس قيس: أن أول من قال الشعر الفارسي أبو حفص السغدي  من سغد سمرقند وكان حاذقا فى الموسيقى، وقد ذكره أبو نصر الفارابي  وصور آلاته الموسيقية وقد عاش حتى سنة ٣٠٠هـ وينسب إليه هذا البيت:

آهوى كوهى دردشت جكونه دودا؟  جوندار ديار بى يار جكونة رودا؟

(كيف يعدو هذا الظبي الجبلي فى الصحراء؟، أنه لا حبيب له  فكيف يسير بغير حبيب؟

فأما رواية عباس المروي فأن المؤرخ الناقد يرتاب فيها لأن  غريبا أن يبدأ الشعر الفارسي بهذا الأسلوب المتين ثم يصمت الشعراء  أكثر من مائة سنة لا يؤثر عنهم شيء. وأما رواية السغدي فراجعة  إلى العصر الذى بدأ فيه الشعر الفارسي وسجل لنا التاريخ بعض شعرائه.

ومهما يكن من شىء فاتفاق مؤرخى الآداب على أن أول شاعر  فارسي عظيم هو أبو جعفر الرودكى شاعر نصر بن أحمد السامانى-  الذى يسميه معروفى البلخى (سلطان شاعران) ويقول فيه البلعمى:  أنه لا نظير له بين العرب والعجم، ويعترف الدقيقى والعنصرى بتقدمه.

يقع

اشترك في نشرتنا البريدية