الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد العاشرالرجوع إلى "الرسالة"

نظرة في نظام بيعة الخلفاء

Share

النمو الاول

-١- جاء فى صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام عند ما جاءه الموت قال " ائتونى أ كتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا . فقال بعض من حضر " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن . حسبنا كتاب الله " فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول " قربوا يكتب لكم كتابا لا قضلون بعده " ومنهم من يقول غير ذلك . فلا أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا , ولم يكتب لهم شيئا .

ولعل الذى كان النبي عليه الصلاة والسلام يريده من ذلك ان يأمر بطريق الحكم بعده , ولكنه لم يكن ليفعل شيئا عبثا فلم يمض فى ذلك وترك الامر لاصحابه وأمته يختارون لانفسهم وبجتهدون فى أمثل الطرق لحكومتهم .

ولم يكن من قبل ذلك نظام مقرر لاختيار الخلفاء فكان على المسلمين أن يبكروا من الخطط أمثلها فى نظرهم بحسب ما تقتضيه الظروف والاحوال . وقد كان فى الاسلام دوائر متعددة عند موت النبى . فقد كان هناك الانصار أهل المدينة , وبين ظهرانيهم المهاجرون من أهل مكة ، وكان هناك اعيان مكة من القرشيين المقيمين فى عاصمتهم القديمة . وخارج هاتين المدينتين كانت قبائل العرب , بعضهم من قبائل اليمن و بعضهم من قبائل مضر , وكان كل من هذه الدوائر يشعر بالغيرة والأنفة أن يكون تابعا الدائرة الأخرى ، اذ ان الاسلام وان هذب عصبية العرب وصرفها نحو الخير ، لم يقض عليها أو ينزعها من القلوب كلها . فرفع الانصار صوتهم أول شيء فقالوا إنهم أحق بالامر , وتنادوا باسم زعيمهم سعد بن عبادة , وهتف بعضهم هتافا كأنما يدعو الى تحكيم السيف فى الامر . ووقف المهاجرون الى جانب إخوانهم الانصار يجادلونهم بالحسنى , ويذكرونهم بما وجب عليهم من الحق فى ذلك الوقت العصيب , وما كان الانصار ليثبوا وراء داعى الشقاق من أجل الحكم ، وهم الذين قنعوا من قبل بأن يتركوا غنائم النصر الذى أحرزوه فى وقعة حنين للمؤلفة قلوبهم ورؤساء الأعراب الذين لم

يكن لهم كبير أثر فى نصرة الاسلام ، وقنعوا بائن يعودوا إلى بيوتهم ورسول الله فى رحالهم راضين بأداء واجبهم ورضى ضمائرهم جزاء . على أعمالهم . ما كان هؤلاء ليحرصوا على الحكم بل سمحت نفوسهم به , ورضوا بان يكونوا الوزراء دون الامراء بعد ان لم يرض المهاجرون بان يجعلوا منهم أميرا مع أميرهم .

فى هذا الموقف تقررت أمور كثيرة ذات خطر عظيم فى دستور دولة المسلمين . فتقرر أن يخرج الانصار من الأمر فلا يكون الخليفة منهم بل يكون من إخوانهم المهاجرين من قريش . وتقرر كذلك أن تكون دولة الاسلام موحدة منذ أبي المهاجرون الا ان يكون على المسلمين أمير واحد من المهاجرين , ولو قبل مبدأ أن يكون فى المسلمين أميران أحدهما من أهل المدينة والآخر من المهاجرين من أهل مكة , لانقسمت دولة الاسلام إلى قسمين من أول أمرها ولسار تاريخها سيرة أخرى غير التى سار فها .

و لم يكن الأنصار وحدهم الذين رفعوا رؤوسهم يتساءلون عن الأمر لمن يكون , بل ان قبائل العرب جميعها اشرابت أعناقها تتطلع إلى الحوادث الجارية . فخرج بعضها عن الاسلام جملة ، وقال بعضها يجب أن يكون الإسلام دينا لاحكمآ فامتنعوا عن أداء الزكاة التى هى رمز الحكم وحق الدولة على رعيتها . غير أن ذلك الأمر لم يتعد الحد في خطورته فاستطاع المسلمون فى المدينة أن يبسطوا سلطانهم على القبائل مرة أخرى وأصبحت لهم بعد شهور قلائل دولة متحدة متماسكة .

على أن طريقة اختيار أبي بكر نفسه، لم تكن طريقة اختيار  بالمعنى الصحيح. ولم يكن الحال عند ذلك يسمح للناس أن يطيلوا  التفكير فى طريق الاختيار لعلمهم بما حولهم من المشكلات  والأخطار. فبعد أن اتفق المهاجرون والأنصار على المبادئ العامة  ورضى الأنصار بمكانة الوزراء دون مكانة الأمراء، ولم يبق موضع  للتردد الكثير فى قبول مرشح المهاجرين، ولو سمي رجل من  أكابر الصحابة غير أبي بكر للقي قبولا عند ذلك، ولكن المسلمين  وفقوا أكبر توفيق فى اختيارهم. وكان اختيارهم نتيجة شعور عميق  وصراحة عقيلة نادرة، فلم يجاملوا ولم يحابوا، بل نطق عمر بما  وافق هواهم، فسمى لهم أبى بكر فرضوا به ولم يتطلبوا أن يتبع فى  اختيار خليفتهم رسم خاص ولا خطة تضمن صدق الاختيار.  وأكبر الظن أنه لم يخطر ببالهم أن هناك طريقا آخر غير أن يسمي  أحدهم رجلا يرضونه فيبايعونه فلم يطل الأمر بعد المناقشة الأولى  بل ازدحم الناس على أبي بكر يبايعونه وهم قانعون مما كان يعرفونه  

من وداعته وقوته وقدمه في الاسلام . ولم يخل الأمر مع هذا من وجود بعض الساخطين على هذا الاختيار مثل سعد بن عبادة من أهل المدينة و مثل أبى سفيان من أهل مكة , ولكن سيرة أبي بكر فى مدة حكمه أرضت عنه من كان كارها لطريقة اختياره منتقدا لها لما رأى فيها من السرعة وعدم التمام .

وكان ابو بكر نفسه يشعر بأن طريقة اختياره لم تكن معصومة من النقد فقد روى عنه أنه لما مرض مرضه الاخير دخل عليه عبدالرحمن بن عوف وكان بينهما حديث طويل جاء فيه أن أبا بكر كان يشعر بالندم الشديد على أنه لم يكن قد سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الامر لمن هو حتى لا يختلف فيه الناس , وعما اذا كان للانصار حق فيه أم هو وقف على قريش

ولم يرض أبو بكر ان يترك الناس للاختلاف مرة اخرى فقد كانوا فى المرة الاولى حديثى عهد بالرسول , فكان اثر شخصه العظيم داعيا الى زوال كثير من الحرص وتملك الزهد في النفوس وخشى ابو بكر ان يكون للناس عند موته فرصة للخلاف مع وجود جنود المسلمين فى وجهين عظيمين تلقاء مملكتى الفرس والروم , فرأى اسلم طريق ان يعهد الى صاحبه المجرب و وزيره القوى المؤتممن عمر بن الخطاب .

غير أن طريقة استخلاف عمر كانت طريقة جديدة قابلها أهل المدينة بالرضى الصامت الذى لا يخلو منالنقد الصامت ، بل قد صعدت بعض اصوات النقد من بعض الزعماء , فان طلحة مثلا قيل إنه لام أبا بكر على اختيار عمر إذ كان يرى فيه شدة وصلابة , وقد روي ان عبد الرحمن بن عوف نفسه عندما دخل على ابى بكر فى مرض موته استشاره ابو بكر في تولية عمر فانكر عليه ذلك وقال إن فيه شدة وصلابة

وعلى كل حال قد مضى ابو بكر فى عهده الى عمر وسن بذلك سنة جديدة ، وهى أن الخليفة له أن يفرض على المسلمين أن يتبعوا رأيه بعد موته فى تولية من يختار لهم بغير أن يكون لهم الحق فى أن يحيدوا عنه ، أو يعدلوا من رأيه ، فكانت تلك سابقة للطريقة التى سيتبعها عمر فى رسم خطة اختيار الخليفة بعده

غير أن أبا بكر وان ابتدع سنة جديدة لم يخرج على السنة التي رسمت فى أول الامر فاختار الخليفة بعده من المهاجرين .

ولما قتل عمر بن الخطاب كانت الدولة فى حال غير حالها الاول فقد فتحت الفتوح واستقر العرب فى البلاد المفتوحة وانشأوا وفيها امصارا لهم وعظمت شوكتهم فلم يكن يخشى عند موته من

خذلاتهم اذا طالت مدة اختيار الخليفة بعض الطول . فلم يشأ عمر ان يترك الناس لطريقة اختيار أبى بكر خوفا من كثرة التردد والاختلاف , وما قد ينجم عنه فى بلاد مثل بلاد العرب يسهل أن يثور فيها تعصب القبائل والعشائر ولا سيما بعد أن صار فى المسلمين زعماء كثيرون معروفون امتازوا فى حوادث الفتح بحسن الفعال واصالة الرأى ولو لم يكونوا من أصحاب السابقة فى الاسلام الذين جرى المسلمون على تقديمهم فى أول الأمر , وكذلك لم يشأ عمر أن يوصي الى رجل واحد كما أوصى أبو بكر اليه ،فانه رأى ان فى ذلك الشيء الكثير من عبء المسئولية والاستبداد بالرأي فى وقت ليس فيه ما كان عند وفاة أبي بكر من الخطر على الدولة وجنودها فى ميادين القتال . فابتكر عمر طريقته المعروفة و هى وسط بين فرض الرأى وبين ترك الاختيار ، فرض رأيه فى ترشيح جماعة من الزعماء أولى القدم والسابقة في الاسلام , ولم يخرج عن السنة الاولى , فاختار هم جميعا من المهاجرين وترك لهم بعد ذلك ان يختاروا واحدا منهم يرضونه في مدة أيام ثلاثة ، وأمر زعيما اسمه مسلمة بن مخلد ألا يدعهم الا مدة تلك الأيام الثلاثة

وكان اجتماع هؤلاء المرشحين اهل الشورى وطريقهم فى الاختيار خطوة واسعة فى سبيل بناء دستور عربي متين لو بلغ مداه لكان من أتم نظم الحكومات

وأخرج أحدهم نفسه من الأمر واجتهد اجتهادا لا يصدر الا عن قلب عامر بالمصلحة العامة , وقضى الليالي الثلاث التى جعلت للاختيار وهو لاينام ولا يستريح بل يقضى الوقت كله فى سؤال الناس سرا وعلانية فسأل الانصار والمهاجرين وسأل زعماء. المسلمين وسأل قواد الجنود الذين وجدهم فى المدينة عند ذلك وهم ممثلون الجنود العرب الذين بالأمصار , فكان بذلك ساعيا الى الاستنارة برأي مختلف الدوائر , واستشارة مختلف الطبقات , والنظر الى الأمر من مختلف النواحى . فلم يكن بين هذاوبين الانتخاب العام الا خطوة واحدة , وهى أن يحصر حق الانتخاب في جماعة تتوافر فيهم صفات معينة و أن تؤخذ آراؤهم بطريقة منظمة

وقد تبين لعبدالرحمن من وراء بحثه ان الناس لا يقدمون احدا تقديمهم لزعيمين من الصحابة من اهل الشورى وهما على وعثمان ، فلما ان استقر رأيه على اختيار واحد منهما ثارت فى وجهه مسائل جديدة اولها المنافسة القديمة بين بيتى قريش : و هما بيت هاشم ، وبيت امية , وثانيها ما كان فى بيت هاشم من الاعتقاد بأن لهم الحق فى الامر لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام

وخشى اذا هو اختار عليا ان يحمل ذلك على انه انما اختاره لقرابته من الرسول لا لفضله وصفاته السامية , فكان فى امره فى حيرة شديدة , وخرج منها على أن يطرح على المرشحين سؤالا يكون بمثابة استطلاع لبرنامج كل منهما اذا هو ولى الحكم . فجمع الناس فى المسجد وعرض سؤاله فقال ": هل انت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيه وفعل ابى بكر وعمر ؟ فرأى على ان معنى ذلك تقييده فوق كتاب الله وسنة الرسول بفعل خليفتى المسلمين قبله . ورأى أنه لا يحسن به أن يقيد نفسه بغير الكتاب والسنة تاركا لنفسه بعد ذلك الاجتهاد والنظر وان خالف رأى صاحبيه . وكانت اجابته على ذلك ان قال ": اللهم لا ولكن على جهدى من ذلك وطاقتى " واما عثمان فانه قال ": اللهم نعم " وكان عبد الرحمن ممن يرون اتباع السلف فيما ساروا عليه منذ كانوا فى ذلك مجتهدين , ومنذ دلت الحوادث على حسن سياستهم فيه وسلامة عاقبة حكمهم . فرأى اختيار عثمان ورفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان ثم قال ": اللهم اسمع واشهد . اللهم انى جعلت مافى رقبتى من ذاك فى رقبة عثمان " وازدحم الناس بعد ذلك على الخليفة عثمان يبايعونه .

فخرجت الأمة الاسلامية من ذلك الموقف بسابقة جديدة منظمة تنظيما كبيرا صالحة لأن تكون أساسآ لنظام واف صالح لاختيار الخلفاء , ففيه نواة الانتخاب العام , وفيه نواة النظر والموازنة بين المرشحين , وفيه نواة ادخال جميع العرب فى حق الاختيار , سواء اكانوا من أهل المدينة أم من اهل جزيرة العرب ام من أمصار البلاد المفتوحة . وفيه فوق كل ذلك نواة لرسم خطة للحكم يسأل عنها الخليفة قبل توليته , ويكون اختياره بعد الافصاح عنها والتصريح , بها وبذلك يكون عليه الوفاء بما تعهد به من الشرط قبل استخلافه .

ولم يبطيء العرب فى تلقف هذه الحقوق ولم يتهاونوا فى المطالبة بها فى عهد عثمان ولم يترددوا في الثورة عندما رأوا ان خليفتهم لم يف بما تعهد به . ( يتبع )

اشترك في نشرتنا البريدية