الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 705الرجوع إلى "الثقافة"

نقد، , تقييد العلم، ألفه الخطيب البغدادى، حققه الدكتور يوسف العش

Share

المعهد الفرنسى بدمشق عناية ملحوظة ودأب متواصل فى تعهد الدراسات العربية ونشر المخطوطات التى حققها أصدقاؤه من المدرسين والباحثين ، وقد ظهرت هذه المخطوطات بورق فاخر وعرض جميل على الرغم من غلاء التكاليف . أما موضوعاتها فمتعددة مختلفة ، ولقد تفاوتت قيمة التحقيق فيما نشر منها بتفاوت المتمرسين بهذا العبء الجسيم الذى لا ينهض به ولا يوفى عليه إلا من أوتى المعرفة الراسخة والجلادة على الضبط والربط والوعى فى التتبع والمقارنة ، وتفهم المعانى والألفاظ تفهماً حاذقاً دقيقا .

وكان كتاب " تقييد العلم " للخطيب البغدادى من أحسن الكتب التى أتحف بها المعهد الفرنسى للمكتبة العربية . أستغفر الله - هذه بضاعتنا ردت إلينا مشكوراً ناقلها مقدوراً فضله حق قدره ؛ فالمعهد الفرنسى على عنايته الكريمة ورأيه المرموق يشحذ فينا الهمة التى قعدت عن مثل صنعه .

أما محقق الكتاب الدكتور يوسف العش فباحث أديب ، عاش مدة بين المخطوطات والكتب دارساً ممحصاً ، بعد أن اختص من الغرب بتنظيم الكنيات وأصول التحقيق ، كما كان حياً من الزمن القريب ناهضاً ومسترشداً بتوجيه الدكتور أحمد أمين بك ، رئيس اللجنة الثقافية بالجامعة العربية ، فى بعث التراث العربى القديم ، وتصوير ذخائره من المخطوطات النفيسة ، وإعدادها للنشر العلمى القويم ، وهو إلى هذا كله ليس غريباً عن مصنف " تقييد العلم " فهو من عارفيه ومقدريه ، أولع بدراسته والكشف عن آثاره وعصره .

فألف فيه كتاباً قيماً سماه " مؤرخ بغداد وحدثها " وله مؤلف آخر فى الخطيب البغدادى لا يزال مخطوطا ، فلا عجب إذا رأيناه متتبعاً لتصانيف هذا العالم الفذ الذى قال عنه ابن عساكر مؤرخ دمشق " إنه أحد الأئمة المشهورين والمصنفين الكثرين " . على أن الذى رجح قيمة هذا الكتاب لدى المحقق الفاضل هو أنه مقصور على موضوع واحد محدد ، وقد آن للمحققين فى الكتب العامة أن يهدوا إلى نشر الخطوطات التى تشتمل على موضوعات واحدة تنتظمها طريقة علمية فى البحث والتأليف .

نشأ مؤلف " تقييد العلم " فى القرن الخامس للهجرة والحادى عشر لميلاد ، وهو عصر تناهت إليه المواريث العلمية العربية والاقتباسات الفارسية والرومية ، ومن أهم هذه المواريث العلوم الإسلامية ، فتفقه الخطيب البغدادى فى الدين ووعى أخبار الأولين ، وطوف فى البلاد للأخذ عن علماء الحديث ، وقد لقى من جراء حرية الرأى والتثبت والبعد عن تقليد الناقلين صنوف العنت والاضطهار ، حتى عد بعد حين حجة فى هذا العلم الذى كان على مصطلح أهله وحافظيه هو مفهوم كلمة " الحديث "

وقد استطاع المؤلف أن يضم فى سفره أثراً يعد من الآثار الأولى فى تنسيق كتابة الحديث والسير فيه على خطة علمية منظمة ، بحيث تجعله مصنفاً ومؤلفاً على أحكم أداء وأقوم سبيل ،

ومن رجاحة الفكر العربى أن يجئ هذا الكتاب قاصدا إلى الانسجام والتكامل بعد سابقة فى التدرج والتماسك بموضوعه . إذ كان رواة الحديث حين زاع الحديث

فى الآفاق يحفظون الكثير منه ويتداخل بعض فى بعض ويتكاثر حتى يشق تنسيقه والإلمام به إلماماً صحيحاً ، وقد نشبت فيه أيدى التزيد حتى صار من العسير رده إلى أصله . وإن وجود اثر كهذا الكتاب فى عصر الخطيب البغدادى ومن تصنيفة لما يسر مهمة العلماء والحافظين للحديث .

لقد ادخل مؤلف " تقييد العلم " التجديد على التأليف فى أصول كتابة الحديث وتدوينه بل رسم خطة للمؤلفين آخذاً بعضها بأطراف بعض ، فإن هذا الحديث حين نشأ وتلقاه الصحابة بالسماع والرواية دخل عليه بعض التزيد أو آل أمره إلى التضييع لاختلال الحفظ واحتمال التصحيف ؛ فتقييده إذاً بنص من النصوص أمر ملازم وعمله تبعة فى النقل والأداء . فهل كان الحديث الذى وصل إلينا كله بلفظ الرسول عليه السلام أم هو برواية الصحابة والتابعين منقولا ببعض ألفاظهم وتعبيرهم ؟

هذه هى المشكلة الكبرى التى قامت عند وجوب التدوين ، وأرى أنها هى التى جعلت بعض المنشدون فى اللغة يقصرون الشواهد على القرآن والشعر العربى القديم دون الحديث ، وقد قطع المؤلف برأى سديد هو أن الرسول عليه السلام نهى عن كتابة غير القرآن والإسلام فى عهده الأول ، لكى لا يضاهى بالقرآن سواء ولا يشغل الناس عنه بغيره (١) فلما أمن المؤمنون ذلك ودعت الحاجة والضرورة إلى تقييد العلم لم يكره هذا الأمر ، فشاع التدوين للحديث بعد مرحلة حفظه وفقدان بعض الحافظين الثقات .

أما تحقيق الكتاب فقد تجلى بهذه الدقة وهذا التثبت الذين عرف بهما الدكتور يوسف العش ، فلا تسرع ولا التباس ، ولا تبجح أو انحراف ، فالكلمة فى مظانها والأداء علمى منظم ، والهامش دليل على معرفة المحقق وثقته بالنصوص التى بحث عنها فى مظان شتى حتى اعتمد على نسخة أصيلة وجدها فى دار الكتب الظاهرية ، وصح عنده بعد إمعان الفكر والنظر أن المؤلف قرأها ووقعها بخطه . وقد عارضها المحقق بنسخة ثانية من دار كتب الدولة ببرلين وضحت له ما غاب من معالم النسخة الأولى .

ومن قبل مهد لهذه النسخة بعض المستنشرفين الذين

وقفوا عليها ، أمثال بروكلن وأهاواردت ، وقد أجاد المحقق الجامعى وفاقاً الفن نشر المخطوطات فة وصف النسخة المعتمدة ، فوضع بين يدى القارئ نماذج منها مع وصف مفصل لسطورها وحجوم صفحاتها وطريقة كتابتها متأكداً ممن كتبها وعارضها وتاريخ ذلك كله ، وقد كتب هذه النسخة أحد تلاميذ المؤلف سنة ٤٦١ ه وقرأها عليه وأخذ مهر خطه عليها . ثم جعل المحقق الثبت يسلسل النسخة فى ملكيتها عند من أحرزوها حتى صارت إلى خزانة المكتبة الظاهرية ، فأعطانا بعمله مثلاً على طبع العالم وتواضعه وإخلاصه فى البحث والمراس . وقد صدر الكتاب ببيان وضح فيه مرماه وفصل موضوعه والنتائج التى أفضى إليها ورأى المستشرقين فيه ، كما شرح طريقة المؤلف ونهج دراسته وبحثه لاسيما إيراد فن السماع ودرجات السماع . ولقد أثبت المحقق فى بيان هذا صورة الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب الظاهرية ثم صورة لعنوان الجزء الثالث من هذه النسخة وفيها خط المؤلف بالسماع عليه .

ولا يستطيع المتتبع مهما تقصى هذا التحقيق أن يجد فيه مأخذاً كبيراً ، والهنات لا يخلو منها كتاب ولا يفلت منها عالم ، وكل ما أخذ به المحقق - إن صح أن يعد هنا مؤاخذة - هو غلوه فى شكر من ساعده على إخراج الكتاب وخاصة إشارته إلى من شاركه بملحوظات فى الشعر الوارد بالكتاب . ولكم من ناشر لديوان شعر لا يتقن الأوزان ولا يعلم العروض . ولم يسلم تدقيق المحقق على اتفاقه وإحسانه من فلتات صغار فى ضبط بعض الأبيات ص ١٣٣ ، وما كان أغناه عن ذكر البحور فى كل بيت أو مقطوعة إلا إذا كان المخطوط الأصلى قد نص على ذلك ؛ وهنا لا بد لى من القول بأن الشعر العلمى للمخطوطات غدا مشكلة من مشكلات التحقيق ، فقد هان خطره على بعض الطامعين بالشهرة القريبة أو القاعدين عن التأليف الذى يظهر شخصية المؤلف وإبداعه . حاسبين أن التحقيق من الأمور الهينة وأن المراد منه إخراج نسخة ثانية عن النسخة الأصلية ، فالتبعات فى هذا الصدد تلقى علي دور العلم والمؤسسات الثقافية التى تتعهد نشر المخطوطات ، فإذا تشددت فى هذا الشأن سلم عملها من الحطل وكان لنشر المخطوطات فائدتها المتوخاة فى بعث الدخائر وإحياء الدفائن .

اشترك في نشرتنا البريدية