يخيل إلى من يقرأ هذا العنوان أن صاحبه الأديب الحكيم قد خالف عن سجيته ومزاجه ، فاصطنع لكتابه أداء البحث العلمي ومنهاجة المحتوم ، ووضع فيه المقاييس والمقارنات التي ينبغي للمعنيين بالأدب والنقد أن يأخذوا بها والملتمسين وجوه الفن والتجديد أن يتتبعوها ويسيروا على نورها وغرارها ، والحقيقة التي تظهر المواقف على محتويات الكتاب هي أنه ليس تغييرا في مجرى صاحبه الذي طبع على الحرية في الموضوع ، والانطلاق في الفكر والخاطر ، شأن الأديب المبدع الذي لا تقيده حدود البحث ولا طريقة الدرس . وإن جعل العنوان تسمية مدرسية ، فيا تقرير وتحديد .
فكتاب " فن الأدب " استمرار لفن الحكيم في خواطره ومنازعه . وفي ارائه وأدائه . وإن اتخذ له منافذ محكمة وأبوابا منسجمة يدخل منها القارئ إلي حجرات شتى ، وما كان أجدر الكتاب بأن يسمى " خواطر الحكيم " .
ولئن كان قدر صلة بالأسماء فإن الحكمة من طبع توفيق الحكيم ، فهو يكتب بفكرته وينزع هواجسه النفسية
من عالم آرائه وإحساسه . ولم يكن أصلا أدبيا منسوبا إلى صناعة الكلام المزوق فهو طراز مفرد في أدبائنا المعاصرين . ند على أساليب البلاغة ولم يؤخذ بسحر البيان ، وإنما فرض على أدبه الأصيل سحرا آخر هو سحر الفكر والفن ، ولعل لمكانه اليوم في دار الكتب بين المخلدات والخطوطات أثرأ في عنوان كتابه وتصنيفه .
وإذا انصفنا قلنا إن كتاب " فن الأدب " حديقة غناء متناسقة الأزاهير والألوان . وما أجملها لمن يراها في حضن الطبيعة ، لا مجموعة طاقات مجزوزة في أوعية منضدة مرصوصة ، وليس من الختم في أية حديقة حتى في حدائق الملوك أن تخلو من الشوك والعوسج ، ومن عصافير شاردة ليست بغريدة تندس بين سوارح الطور الشادية ، فلقد هاجم الأستاذ توفيق الحكيم الأدب العربي في صميمه ، إذ رماه بالتقاعس عن تفهم القرآن واقتباس النور من فنه الأسمى رأى أن هذا الأدب قد قصر همه من القرآن على اللغة فحسب ، إذ وجد فن النموذج اللغوي ولم يجد النموذح الفني كما اتهم هذا الأدب بإنصرافه عن الشعب ، فأين غاب عن الأديب
الكبير شعر ابن الرومي الذي قاله تصويرا لنواح من حياة الشعب ، وما صنع المعري في إيقاظ الجمهور . وصرخاته الدوية في وجوه الطغاة وإن كانت لغة الاثنين وأمثالهما رفيعة بليغة ، ولو رجع إلى تراثنا من الأدب لا سيما الأموي لتبينت له صور فنية كثيرة مستوحاة من القرآن ، وقد عجبت إذ رأيت الأديب الحكيم يتوهم في مقاله عن الأدب العربي وتجدده ، أن الجاحظ كان بسيط الأسلوب واللغة . وأنه أول من نزل من أدباء العرب إلى الشعب يستوحيه ويصور حياته ، والحقيقة ان الجاحظ كان بليغ الأسلوب مكين اللغة ومن أئمة البيان ولم ينزل إلى الشعب بركاكة لهجة أو لين أداء ، وإنما رفع الشعب إليه ليسبغ أسلوبه ويتذوق أدبه ، ويرى صوره بقلم تجافي عن الزخرف والتكلف . ولم يجرؤ أحد من معاصري الجاحظ وحاسديه من ذوي الرأي والنقد أن ينال من أسلوبه ولغته .
ولو أن المؤلف الموهوب راعي اختلاف الأحكام والأزمان وما أتييح له هو في استلهام فنه من القرآن بقصة " أهل الكهف ، لعذر الأوائل في إحجام عن مثل صنعه . وكان بمقدورهم ذلك لولا التزمت والتحرج .
وقد تكلم الأستاذ الحكيم على كل ما له مساس بالأدب من دين وعلم ، ومن حضارة ومعرفة ، وألم بأدب القصة والمسرح ، والصحافة والإذاعة . وعرج على أهل التصوير والغناء منذ تفتحت موهبته وبدت تباشير فنه ، فبعث صورهم من مراقدها ، وإن مما يروق ذوي الفن أن يقعوا في كتابه هذا علي تبارك لراحة نفوسهم يجدون عندها استجمامة المتعب حين يأوى إلى روضة وظل ماء ؛ فخانة "القط الأسود " التى ذكرها للؤلف في كلامه علي المنشدين تذكرني بمقال له قديم عن حانة في " مونمارتر " كان يأئمها ، وحقا فإن الأماكن الليلية في أحياء الفن الباريسي حيث تنبسط الحرية وبشوق اللهو يجد الشرقي دنيا لا عهد له بمثلها . فينطبع الموهوبون من الشرقيين بطوابع فنية تختلف آثارها فيهم . وقد أتيح للمؤلف أن يندمج في هذه الآفاق التي أدرك عمق الفن فيها ، وقد أوتي الفن الأصيل ، فاستطاع أن يجلوه لنا في صور أخاذة كهذه اللمحات في إنشاد شاعر من الصعاليك سمعه الحكيم وقد كان المنشد يلقي مقطوعة من شعر حافظ الشاعر الفارسي ، ثم تعاقب بعده شعراء أنشدوا قصائد وغنوا أغنيات قديمة ، ورووا نوادر عجبة ، كل هذا يصفه الأديب الحكم في سرد قصصي أوتي البراعة في أدائه وتصويره .
وبسحره استطاع أن ينقلنا مع الكثير من قرائه من أجوائنا الشرقية إلى مطاف الغرب وفنونه ، والعجيب أنه في خلال ذلك كان ينزع نزعة شرقية بحتة ، على الرغم من انسيابه في ثقافة الغرب وطرافة الحضارة ، وهذا عائد إلى طبيعته الروحية وإيمانه بالغيبيات ، فهو يقتبس من نفسه وحسه أكثر مما يستمد من علمه وعقله ، ويتجلى مذهبه الروحي هذا في كثير من موضوعات الكتاب ، وما كانت هذه الموضوعات كلها جديدة في فكرتها أو نادرة في صورها وروعتها ، ولكن بينها وفي سطورها يسرى فن الحكيم وفي بعض الصفحات أشياء لا يلبث مدرك القيم أن يغض الطرف عنها ليصل إلى الجمال المجاور والروائع المتعاقبة ، فعل سالك في غابة يمر بماء آسن ، ثم يقف على ضفاف ينبوع ليرتوي .
أما رأي الأديب الحكيم في تسخير الأدب لإيقاظ الرأي والفكر وصقل الذوق والموهبة فغاية مثلى في إظهار مهمة الأديب ، ولم يشأ توفيق الحكيم حين تكلم على الأدب والصحافة أن يغض من الصحافة وينال من بعض أطوارها واثارها ، فقد عاش في حماها مدة ، ولو أنصف لنقد المساوئ والهموم التى جرتها الصحافة على أدبنا المعاصر
ومهما يكن فبحر الحكيم في كتابه هذا - شأنه في غيره - ممتلئ بالآلئ.
) القاهرة (

