درج الباحثون في الأدب العربي على أن الشعر الأموي صورة من صور الشعر الجاهلي وانه ليس إلا امتدادا له يشبهه تمام الشبه إن لم يتحد معه في خصائصه الفنية تمام الاتحاد ، وأن الشعر العربي لم يخضع لسنة التطور ، ولم يعرف معنى التجديد إلا بعد أن اتصل العرب بالموالي في العصر العباسي .
هذه هي الفكرة التى وقف أمامها الدكتور شوقي ضيف ليرى مدى الصواب فيها أو مدى الخطأ ، ولينتهي إلى رأي يضع به الشعر الأموي في موضعه الصحيح من تاريخ الشعر العربي .
ويقوم منهج الدكتور شوقي ضيف في بحث هذه الفكرة على أساسين .
يقوم ) أولا ( على دراسة بيئات هذا الشعر الأموي ، وما أصابها من تغير في جوانب الحياة المختلفة ، نتيجة لظهور الإسلام ، وتحول الحياة العربية من صورتها الجاهلية إلى صورتها الإسلامية .
ويقوم ) ثانيا ( على الرجوع إلى الشعر الأموي نفسه ، ودراسته دراسة عميقة سليمة المنهج ، تصل بينه وبين ذلك التغير الذي أصاب الحياة العربية في بيئاته المختلفة ، وخضع القانون الفعل ورد الفعل .
وينتهي الدكتور شوقي ضيف من بحثه إلى أن هذه الفكرة التى درج عليها الباحثون في الأدب العربي فكرة خاطئة من أساسها ، وإلى أن الأدب العربي لم يعرف في تاريخه حكما قائلا مثل هذا الحكم " الذي ينكر على العرب أن ينهضوا بشعرهم وفنهم في عصر بني أمية ، كان العرب قوم
يستعصون على التحول والتطور ، مهما تكن التغيرات والإنقلابات التى تصادفهم في حياتهم ، ومهما تكن الهزات العنيفة التي تمسهم في عقولهم وأفئدتهم .
فالشعر الأموي ليس صورة مشابهة للشعر الجاهلي ، وإنما هو صورة متطورة من هذا الشعر القديم في بعض جوانبها ، وجديدة كل الجدة في بعض جوانب أخرى ؛ فالشعر الأموي قد خضع خضوعا واضحا لتطور الحياة من حوله : الدينية ، والعقلية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، وقد جدت فيه معان وأفكار ، واستحدثت فيه موضوعات ، وتطورت قصيدة المديح في هذا العصر إلى التعبير عن طاقات جديدة لم يكن العصر الجاهلي يعرفها ، ودخلت فيها معان إسلامية جديدة لم يكن الشاعر الجاهلي الوثني يفكر فيها . وتحولت قصيدة الهجاء أيضا إلى شئ جديد ، يختلف مختلف عن قصيدة الهجاء القديمة من حيث الغاية ومن حيث الصورة ، فقد أصبح يراد بها إلي اللهو لا إلى الجد ، وأصبح الهجاء حرفة يتفرغ لها شعراء من هذا العصر ، وخاصة في العراق ، حتى أصبحت النقائض كأنها مناظرات أدبية ؛ وإلى جانب ذلك ظهرت ألوان جديدة في الشعر الأموي ، فابتدع ابن أبي ربيعة فنا جديدا في الغزل ، مخالف طبيعته المألوفة في الشعر القديم ، إذ تحول عنده من غزل عاشق يصف حبه لمعشوقته إلى غزل معشوق يصف حب عاشقته له . وتخصص ذو الرمة بوصف الصحراء ، ومضى يرسم لها لوحات رائعة تخالف تمام المخالفة ما عرف من وصف الصحراء في الشعر الجاهلي . ونظم الكميت
" هاشمياته " في صورة جديدة كل الجدة ، إذ تحولت القصائد عنده إلى ما يشبه مقالات المتكلمين . وابتدع الوليد ابن يزيد فن الخمرية قبل أبي تواس ومدرسته في العصر العباسي . وتحولت الأرجوزة على يدى رؤية بن العجاج إلى ما يشبه المتون اللغوية ، وكانت بهذا أقدم صورة من صور الشعر التعليمي في اللغة العربية . وإلى جانب هذه الألوان الجديدة البارزة في الشعر الأموي ، ظهرت ألوان أخرى أقل وضوحا منها . فظهر الجنين إلى الوطن في شعر الفتوح الإسلامية ، وهو موضوع لم يعرفه الشعر الجاهلي ، وظهر شعر السجون والنصاص والقضاء . والشعر الذي يصور مظاهر الحضارة الجديدة كبناء القصور ، وحفر الجداول ، والاحتفال بالأعياد ، ونحو ذلك .
هذا عرض سريع لما ورد في كتاب التطور والتجديد في الشعر الأموي من آراء ، بحاول بها مؤلفه نقض تلك الفكرة القديمة التي سيطرت على أذهان الباحثين في الأدب العربي ، والتي نرى أن الشعر الأموي امتداد للشعر الجاهلي .
ونقف بعدنا لنتساءل : مامدي التوفيق الذي أصابه الدكتور شوقي ضيف في كتابه هذا ؟
الأمر الذي لاشك فيه هو أن الكتاب يدل على ما بذله صاحبه في سبيله من جهد ومشتقة وصبر وأناة ، فليس درس عصر من الصور بكل ما فيه من مقدمات متعددة . وتيارات مختلفة ، على أساس منهجي سليم ، بالشيء الهين اليسير ، ومع أن العصر الأموي من العصور التى نالت حظا موفورا من عناية الباحثين في الأدب العربي ، فإن الهدف الذي يستهدفه الدكتور شوقي ضيف من كتابه . وهو تبين الجديد والتجدد في شعر هذا العصر ، يجعل مهمته على شئ غير قليل من الصعوبة والمشقة . إذ أن الدراسة في هذه الحالة ستكون دراسة مقارنة بين عصرين .
وقد استطاع الدكتور شوقي ضيف أن ينهض بهذه المهمة على صورة تستحق الإعجاب والتقدير
وهو في هذا الكتاب كشأنه في كتبه الأخرى - عالم وفنان معا . يمزج بين " العقبية والفنية ويستخرج من هذا المزاج ألوانا طريقة من البحث العلمي الفني في الأدب العربي . ولعل ذلك الفصل الذي كتبه عن " لوحات ذي
الرمة " ) ٢٠٩-٢٣٢ ( من أروع فصول الكتاب التي تمثل هذه الظاهرة تمثيلا قويا .
ومع ذلك فهناك بعض أشياء نأخذها على هذا الكتاب : وأقوى ما نأخذه عليه هو أن الفرق بين التطور والتجديد ليس واضحا تماما في بعض فصوله . فالفصل الثاني فيه يدرس " تطور الشعر الأموي مع الحياة ، والفصل الثالث يدرس " التجديد في المديح والهجاء وقد وقفت طويلا أمام هذين الفصلين محاولا أن أتبين السر في الفصل بينهما ، ويخيل إلي أني لم أهتد إلى هذا السر ، فإن ما أصاب قصيدة المديح وقصيدة الهجاء في العصر الأموي ليس إلا تطورا لما كانت عليه هاتان القصيدتان من قبل ، ومن هنا كنت أتصور أن يضم هذا الفصل الثالث إلى الفصل الثاني الذي يدرس ) تطور الشعر الأموي مع الحياة " على أن يدخل تطور قصيدة المديح تحت موضوع " الحياة الدينية ويدخل تطور قصيدة الهجاء تحت موضوع " الحياة العقلية " . وليس تصورنا هذا تعسفا ، وإنما هو صدى لاحساس الأستاذ المؤلف عوضوعه ، إذ تراه في مقدمته للكتاب ) صفحة هـ ( يرد تطور قصيدة المديح إلى تطور الحياة الدينية ، وتطور قصيدة الهجاء إلي تطور الحياة العقلية .
أما إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن قصيدة المديح وقصيدة الهجاء في العصر الأموي لونان جديدان ، شأنهما في ذلك شأن النزل عند ابن أبي ربيعة أو وصف الطبيعة عند ذي الرمة ، فقد كنت أتصور أن يضم هذا الفصل الثالث إلى الفصل الرابع الذي يدرس الألوان الجديدة في الشعر الأموي .
والمسألة الثانية التي نأخذها على هذا الكتاب هو هذا " التعليق والتعقيب " الذي أقرد له الأستاذ المؤلف القسم الأخير من خاتمة الكتاب ) ٢٩٤-٣٠٠ ( فهو يدرس فيه ألوانا جديدة أخرى من الشعر الأموي ، أو على حد تعبيره " خطوطا صغيرة " كالحنين إلى الوطن . ووصف مظاهر الحضارة ، ونحو ذلك ؛ وما دام الأستاذ المؤلف يرى أن هذه الخطوط الصغيرة ألوان جديدة ، فقد كنت أتصور أن تضاف إلى الفصل الرابع الذي يدرس فيه الألوان
الجديدة . ولم يكن هناك من بأس في أن تكون قسما سادسا في هذا الفصل تحت عنوان " ألوان أخرى " أو " خطوط صغيرة " .
بقيت مسألة شكلية نأخذها أيضا على هذا الكتاب ، وهي وضع الشرح اللغوي لألفاظ بعض الأبيات في صلب الكتاب ، كما نرى مثلا في الصفحات ٢٣١،٢٣٠،٢١٤ ٢٩٦ . فقد كنت أفضل أن يوضع هذا الشرح اللغوي في هوامش الكتاب حتى لا يحدث انقطاعا لا مبرر له بين أفكار الموضوع الواحد
ولكن هذا كله لا يغض من قيمة الكتاب ولا ينقص
من أهميته فهو بحث من الطراز الأول ، استطاع صاحبه أن ينهض به على صورة تستحق كل تقدير وإعجاب . وحسبه أنه وضع الشعر الأموي في موضعه الصحيح من تاريخ الشعر العربي : تطورا متجددا من الشعر الجاهلي ، وتجديدا متطورا إلى الشعر العباسي . وأنه استطاع أن ينصف العرب من أولئك الذين جعلوهم " أحجارا ينقلون من مكان إلى مكان ، ومن عصر إلى عصر . ومن طور بداوة إلى طور حضارة ، دون أن يتأثروا بما يصادفهم في كل ذلك من مؤثرات حضارية وغير حضارية ،
