الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 705الرجوع إلى "الثقافة"

هذا العيد

Share

عندما أقبل العيد هذا العام خلوت إلى نفسى أتأمل مقدمه وقلبى يفيض بمشاعر الرحمة والمحبة ، فوددت لو أننى أملك مفاتيح السعادة والسلام فأطلقها حتى تعم الكون كله فى مشارق الأرض ومغاربها ، وتمنيت فى تلك الساعة لو كنت شاعراً فأحى هذا العيد بأنشودة أسكب فيها كل مشاعرى فلا أدع منها قطرة من أمل إلا أفرغتها ثم غنيت بها كما يغنى الطير فى ساعة الفجر وهو يستقبل شعاع الشمس المشرقة .

إنه يوم كسائر الأيام تطلع خمسه فى الصباح ثم تغرب فى المساء ويمضى كما يمر غيره ويضيف إلى أعمارنا قطعة بأن ينقصها قطعة ، ولا يلبث أن يكون ذكرى تنضم إلى سائر ذكرياتنا فتؤلف فى مجموعها ما نسميه حياتنا ، ولكنه مع هذا يوم خاص له ميزة على الأيام وله طابع يجعله علماً بارزاً فى دورة العام . ذلك لأننا نحن وآباءنا وأجدادنا قد خلقنا له من أنفسنا شخصية مستقلة تجعله يوماً دائما يثير فينا ما لا يثيره سواء ، ونترقب فيه ما لا نترقب فى الأيام الأخرى .

وأخذت أتصفح السنوات الغابرة عاماً بعد آخر كما يتصفح الإنسان ( ألبوم ) الصور العزيزة التى تسجل اللحظات السعيدة التى مرت به ، فعدت إلى أيام الطفولة ويالها من أيام ؛ كانت

قلوبنا تخفق فيها لمقدم هذا العيد وتتطلع إلى صباحه كما تتطلع إلى أمل باسم ، فنبيت ليلته على أحلام الغد السعيدة ، والحذاء الجديد اللامع يرقدم من فوق رؤوسنا ، والبذلة الجديدة معلقة حيالنا لتقع عيننا عليها أول شئ فى الصباح . كانت ضجة العيد عند ذلك تملأ حياتنا سعادة فنخرج إليها لنشارك فيها بصيباً ولنستمتع بها مجتمعة شاملة فى كل ركن من أركان المدينة أو القرية . كان العبد مائلا فى البيت وفى السوق وفى المسجد وفى الملهى ، حتى المقابر كانت تشترك فيه بنصيبها ، كان العيد يشملنا جميعا ويوحى إلينا جميعاً وبنادينا جميعاً قائلا إننى لكم جميعاً . أكان هو الذى ينادينا حقاً ؟ أم كنا نحن الذين ينادى بعضنا بعضاً ، وكنا نحن الذين نقول إن هذا العيد لنا . إنها الطفولة التى تأخذ بغير أن تفكر .

لقد وددت وأنا فى خلوتى أتأمل مقدم هذا العيد لو استطعت أن أترقبه بقلب خافق كما كنت أترقبه من قبل فى أيام تلك الطفولة البعيدة وأن أستقبل ضجته النابضة كما كنت استقبلها وأشارك فيها بنصبى وأتمتع بما يقدمه الآخرون من أنصبتهم متجاوبين جميعاً فى غير تكلف ولا تعمد ، ولكن قلبى لم يستجب إلى أمنيتى بأكثر من ذلك

الشعور الغامر اليهم من الرحمة والمحبة ، وهو شعور لا يشبه فى شئ ذلك التطلع المرح المستبشر الذى كنت أحبه عندما كانت الحياة جديدة .

تمنيت لو استطعت أن أسعى فى فجر ذلك العيد إلى كل من حولى من الأهل والأصدقاء ، والجيران فى الحى . فأوقظهم إليه حتى نخلقه جميعا مرة أخرى ؛ نخلقه فى أنفسنا ثم نعيش فيه ونستمتع به كما كنا نستمتع به من قبل ثم تطويره فى حياتنا ليكون قطعة منها . وتتعلل بعودته إلينا بعد لنعيشه مرة أخرى . لقد طالما أقبل ذلك العيد على آبائنا وأجدادنا وهم قوم مجتمعون يحيونه ويحبون فيه بعضهم بعضاً مستبشرين بطلعته عليهم ، آملين أن يعود إليهم مرة بعد مرة يصاحبهم فى طريقهم المقدور لهم فى الحياة ، كانوا عند ذلك مجاهدون فى ميادين النشاط الإنسانى ويرفضون لواء الحضارة للعالم كله . ويضيفون إلى تراث الفكر والمثل العليا كنزاً بعد كنز . وقد عاش العالم قروناً طويلة على فضل ما خلفه هؤلاء الأجداد فى العلم والفكر والخلق ، لأنهم كانوا لا يعرفون فى إنسانيتهم حدوداً بين الأجناس ولا الألوان . ولكن ذلك العيد طالما أقبل علينا ونحن قوم متفرقون بعد أن حطمنا ما ورثناه من تراث الفكر والعلم والمثل العليا ، بغير أن نخلق لأنفسنا علماً جديداً وفكراً طريقاً ومثلاً عليا جديدة نجتمع جميعاً من حولها

فصرنا نستقبل هذا العيد لا نحس فيه بأنفسنا ولا نجد فيه من المعانى العزيزة ما يملأ قلوبنا بالأمل والبشر ، صرنا نستقبله ماترين كأنه لعبة قديمة مكررة لا تهتز له ولا نتطلع إلى عودته ليجدنا أسعد حالا . ثم تعاقبت علينا الأحداث الأليمة التى كان من الطبيعى أن تتعاقب علينا بعد أن جردنا أنفسنا من التراث الذى كان يعصمنا ،فعلمتنا الشدائد ما كنا فى أشد الحاجة إلى أن نتعلمه منها . وذلك أن الأمم لا يمكن أن تحيا بغير أن يكون لحياتها مبادئ قومية يؤمن بها الناس جميعاً ويلتفون بقلوبهم حولها ، وقد علمتنا هذه الأحداث الأليمة أننا منذ حطمنا ما ورثناه من هذه المبادئ القومية التى كان الآباء يؤمنون بها ، قد وقفنا حيارى موزعين ، نقلب وجوهنا قبل المشرق والمغرب ونرجو أن نعثر على قبلة ترضاها ، فنحن اليوم نستقبل العيد وعن أكثر معرفة لما فقدناه وأكثر إدراكا لما كان يجب علينا إدراكه . وقد أشرقت علينا بوادر فجر

النهضة الجديدة التى تملؤنا قلقاً وتساؤلا وتلهفاً .

فمرحباً بهذا العيد الذى يقبل علينا بعد أن زال عنا الخمول والفتور والملل الذى يشبه خمود اليأس ، وحل محله هذا الاضطراب الثائر الذى نحسه جميعاً فى أعماقنا . مرحباً بهذا العيد الذى يقبل علينا مع هذه الحركة القوية التى تهز عقولنا وعواطفنا وضمائرنا ، وإلى اللقاء بعد دورة أخرى إن شاء الله من دورات هذا الفلك الدائب الذى لا يعرف السكون ، فإننا نترقبه فى شوق ليعود إلينا ونحن نسعى إلى الأمام فى أمل متجدد لا نسأل أنفسنا عن مقصد محدود أو هدف قريب ، بل نسعى ونسعى فى أمل متصل أن نكون فى غدنا خيراً مما نحن فى يومنا .

اشترك في نشرتنا البريدية