الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الرابعالرجوع إلى "الرسالة"

​هذا الغروب

Share

شهدت غروب الشمس فى كل ناحية من نواحى هذا  الوادى الفسيح الممتد: رأيت الشمس من أعلى الهرم  الأكبر تذهب مع ذهب الصحراء، ورأيتها تختفى وراء  صفحة الماء، أو تودع حسرى خلف جبال ليبيا، أو تغيب  كاسفة وراء الأفق بين أطلال وآثار، أو تغوص فى لجة  الغيب تحت إشراف المنائر وأعالى الأشجار، أو تحتجب  عن الأبصار وسط جمع من كثيف السحاب، أو تذوب  فى سماء صافية تمسحها من لوحة النهار يد الليل القاتمة -  ولها فى كل حال ما شاءت لها الأيام من وحشة أو من رواء.

وهؤلاء القدماء آباء هذا القطر القديم كانوا يسيرون،  هادئين طائعين، مع الشمس حتى الغروب: كم أعطتهم حياة  وحرارة! وكم أمدتهم بأسباب الخلود فى الجلمود! وهم  اليوم قد غابوا عنها. أما هى فما غابت عنهم ولن تغيب عنا  وإنما يأتى اليوم الذى نغيب نحن فيه كما غابوا وكما تلقيناها  نحن عن الأجداد سيتلقاها عنا الأحفاد.

وهذه الشمس المانحة، تسير عبر الوادى سابحة، كما  كانوا يقولون - تقبل عليهم نياما وتتركهم أيقاظا. تمنهحم بهجة النهار، وتنزل عليهم سكينة الليل، ولكنها بين  ذلك قد تأتيهم وقت الغروب بالوحشة ذات الخفايا والظلمات،  حتى ليظنون فى يقين أن هذا الغروب وداع للنور وتسليم  بظلمة الوجود.

ينقطعون عن الحى الصاخب المتحرك، ويدخلون البيوت  الهادئة الساكنة كأنهم يدخلون القبور - وفى السكون  مع الهدوء تنشأ الحركات - ولكنهم يتركون الفضاء الواسع  والنجم الساطع ويخضعون لكابوس الليل الزائل، يسيرون  بالركب وئيدا مستسلمين، يضمهم وينضمون إليه وهم فيه

صامتون، إلا ما كان أمراً لصارخ بالسكوت، أو زجرا لسريع بالهدوء، أو همسا لآمل باليأس الممقوت.

أما أنا فما ساءنى غروب فى هذا الوادى الخصيب، بل  دلنى كل غروب، فى اختلاف حالاته، على انه حركة  تتلوها حركات، وانه علامة للفصل، تنبئ عن وجه  جديد بشروق جديد، فى نور جديد بأمل جديد .. وهكذا  حييت مع هذا الفاصل، متصلا دائما بالأمل الجديد ..

ولم أسأل نفسى ولن أسألها عما يكون مع الشروق  الجديد، ولن أسأل غيرها عن غدها إذ الكل على الغد عيال وما عرفنا عند الناس علم الغيب ولا عناوين الأيام.

إنما أناجى نفسى كل غروب: ماذا أعددت للغد أيتها  النفس الساكنة فى قلق، الآملة فى يقين؟ ماذا هيأت  من أثر يضاف إلى آثار سابقات، أو من حسنة تمحو سيئات، أو من  بسمة تذهب بالآهات، فيكون ذلك منك فهما لمعنى الواجب  بل لمعنى الحياة ...

حتى إذا سحبت الشمس بعد غروبها ذيل ضيائها  وتمكن الليل من الأحياء، فأنى أودع صاحبى وأقول:  قم يا صاح فللغروب شروق، وللمساء صباح ... المعادى

اشترك في نشرتنا البريدية