نشأت فى حى وطنى، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلا، ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم، اذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرأوها فى أنفسهم وفى معيشتهم، فكانت الصلة بينى وبين سكان القاهرة فى عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابنى وعهد اسماعيل. فالحياة فى السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييرا كبيرا، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل فى عينك استغرابا إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية فى عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقا جديدا.
كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة، يسكنها البائع المتجول، يظل نهاره وشطرا من ليله متنقلا في الحارات والشوارع، ينادى على البلح فى موسم البلح، والخيار فى موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات فى بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة فى حجرة.
وطائفة من الموظفين من رئيس قلم فى وزارة الأوقاف، وكاتب فى وزارة الأشغال يمثلون، الطبقة الوسطى فى حياتهم الاجتماعية والمدنية.
وبيت أرستقراطى واحد كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدما فى السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، ويرهبه الكبير والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجائها فتملأ القلوب هيبة، وكان كل سكان الحارة يسمونه "الشيخ" من غير حاجة الى ذكر
اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمى ماء قذرا أمام بيتها خوفا من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم فى السباب والنزاع خوفا من الشيخ. ولذلك امتازت حاراتنا من مثيلاتها ومما يجاورها بالنظافة والهدوء.
كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها فى النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون الى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب الفخر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفى، ويواسونه فى مأتمه، ويشاركونه فى أفراحه، وهم فى ذلك سواسية، لا يتعاظم غنى لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.
وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) يتبادلون الاجتماع فى أحدها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحيانا يحيون الليلة فى سماع قرآن أو حفلة طرب، ولحسن حظى كان بجوار بيتنا موظف فى الأوقاف يهوى الناى ويتقنه، فكان كثيرا ما يحيى أصدقاؤه فى منظرته حفلات شقية بديعة، إليها يعود الفضل فيما لى من إذن موسيقية وميل لسماع الغناء والافتنان به.
كان من المناظر التى لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها فى ركوع، وهم يغدون فى الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته فى الزير (سقا عوض) وهى كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا. بل ربما لم أفهمه الى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتى لها بقربة حلوة أحيانا، ومالحة أحيانا، وربما تصنعت فى مناداتها فرققت من صوتها، وتدللت فى نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.
وكثيرا ما طال النزاع بين السقا وربة البيت: فهو يقول ان القرب صارت سبعا وهي تأبى إلا ستا، ويطول الحوار والجدل والقسم بالإيمان، وأحيانا يتفادى السقا هذا الجدل بطريقة من طريقتين. إحداهما أن يوزع خرزا من نوع خاص على صاحبة البيت عشرا عشرا، أو عشرين عشرين وكلما أتى بقربة أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه. وثانيتهما انه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطا - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحيانا يتهم السقا ربة البيت بأنها مسحت خطا، وأحيانا تتهمه هى أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك ابى السقا فى معاملة هذا البيت الا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة
وفى يوم من الأيام حول سنة ١٩٠٠ رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولا وعرضا، ومدت المواسير وأدخلت فى بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقا، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء فى كل طبقة من بيتنا، فى أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول "وجعلنا من الماء كل شىء حى" وما أنس لا أنس خادما أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعجبت أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع الا إذا شئنا، وحارت فى تعليل ذلك، وأظنها حائرة الى اليوم ان كانت على قيد الحياة.
وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب الألف بالعجب، ولكن ظللنا نستضئ بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوما ضربت لأنى أرسلت لأشترى زجاجة لمبة فكسرت منى فى الطريق، وكثيرا ما فسد مفتاحها فإذا أدرناه يمينا أخذ يرتفع اللهب ثم يرمينا بالهباب، وإذا أردناه شمالا أخذ يهبط حتى لا نرى. وهكذا دواليك، حتى يضيق الصدر ونذهب الى النوم
قبل الموعد - وكثيرا ما نكون فى سمر لذيذا وحديث ظريف أو قراءة ملحة، ثم نسمع الزجاجة كسرت فينكسر قلبنا لأن الوقت ليس وقت بيع وشراء، أو ننظر فاذا الجاز قد فرغ ولا جاز لنا!
ثم رأينا الأسلاك تحزم البيت، وتحزم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء فندير المفتاح يمينا فتضىء الحجرة ونديره شمالا فتظلم - وأبى الله إلا أن يرزقنا هذه المرة أيضا بخادم خطبت فى قريتها وأرادت السفر لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها لمبة من اللمبات الكهربائية أو لمبتين لتنيرها فى حجرتها ليلة زفافها - وكان لهذه الخادم فصل اظرف من هذا وألطف، فقد نظرت أول ما أتت من قريتها الى السقف فلم تر فيه عروقا تحمل ألواح الخشب (لانه كان من الأسمنت المسلح) فصعدت الى السطح لتحقق الأمر لعل السقف مقلوب، وان العروق من فوق والأخشاب من تحت، فلما لم تر عروقا فوق ولا تحت، أحست بالخيبة فى تعليلها، وفوضت الى الله أمرها!. .
ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتى ليحزم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمد وعدة صغير تركب وجرس يدق واذا بالتليفون، واذا بنا نتصل بمن فى القاهرة وضواحيها بل بمن فى أنحاء القطر ويتصل بنا من أحب، وأحسست اذ ذاك أن البيت قد استوفى حظه من الحياة كما يستوفيها الجسم الحى الراقى من شرايين وأوردة على أدق ما تكون من نظام - وكان لى مع التليفون متاعب أود أحيانا أن لو كان لم يكن، وأحيانا محامد احمد الله ان كان - فقد كنت قاضيا، وبيتي وحده من بين القضاة فيه تليفون يصلنى برئيس المحكمة، فقد يتغيب قاض فجأة عن الجلسة فيدق التليفون - آلو - انتدبناكم اليوم لمحكمة العياط، ومرة أخرى لمحكمة الصف، وقد يكون اليوم ثقيلا، حر يذيب رأس الضب، وأو برد يقف منه الجلد - على كل حال - فكثيرا ما كان نذيرا بشر، وكثيرا ما كان بشيرا بخير.
وأخيرا أتى العامل أول أمس يزيد الأحزمة - حزاما
ولكنه فى هذه المرة حزام ناقص - خط رأسى وخط أفقى، وآلة لا يأبه لها النظر، وفى ذلك سر عجب، هذا هو الراديو - فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان، وواصلك بكل مكان - إن شئت معلما فمعلم، أو غناء فمغن، أو فنا ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد. يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فاذا كان طالبا فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك، أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع، فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، هو عبد مطيع، وخادم أمين، إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساو لم أتعرفها فان جربتها فسأحدثك عنها بعد.
أين أنت أيتها الخادم التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، لو كنتما اليوم فى بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائرا من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة فى الاستهلاك لا فى الإنتاج، وإننا، فى مواسير - الماء ومصابيح الكهرباء وآلات الراديو والتليفون - وما الى ذلك من شؤون المدنية، لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع، ولنا أن نكون من النظارة ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر
إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيرا فلست آخر ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريبا يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت، فان كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعد ونرى - ومن يدري! لعل أسلاكا أخرى تدخل توزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكا وأسلاكا - بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد ان يتحرر
رمزا لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التى تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك - وسينظرون الينا كما ننظر نحن الى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون اذ فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع انهم اتصلوا بأهل السماء ,. وستعود البيوت من غير أسلاك، ولكنها وافيه بالمطالب التى نستمتع بها، والتي نحلم بها، والتي لا يقدر خيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.
