كان ذلك فى يوم جمعة فى شهر فبراير سنة ١٩١٩، ولم أكن وقتها حديث عهد بجبل المقطم، أو قليل خبرة بوديانه وطرقاته، ولكنها حالة طارئة من النوع الذى يبتلى به رواد الصحراء. فتودى بهم أو تجعلهم يتخبطون فيها على غير هدى، إلى أن تنتشلهم العناية الألهية - كانت تجربة قاسية ولكن الله سلم - ، ولا يظنن القارئ أن هذه التجاريب وأمثالها تصد رواد الجبال والصحراوات عن رحلاتهم، بل هى مما يزيد فى خبرتهم وحماستهم ويجعلهم (معيدين) يقدمون غير هيابين أو وجلين.
خرجت من منزلى فى هذا اليوم فى الصباح الباكر، وبصحبتى أحد الأصدقاء نقصد زيارة الغابة المتحجرة الكبرى بجبل المقطم على أربع ساعات من القلعة بالسير الحثيث جهة الجنوب الشرقى - وكان اليوم صحواً، والطقس معتدلا، والهواء ساكناً، وكنا على عزم أن نعود بعد الظهر بقليل، فلم نأخذ معنا ماء ولا طعاما سوى شطيرتين (سندوتش) لكل منا. وكانت ملابسي خفيفة وليس معى من مرافق الرحلات الجبلية سوى عصا قصيرة.
وصلنا المنشية فى منتصف الساعة السابعة، ثم درنا حول القلعة من جهة (عرب اليسار) وبعد أن اجتزنا تكية سيدى المغاورى أخذنا نرتقى الجبل؛ وبعد نصف ساعة وصلنا هضبة المقطم السفلى، وبعد أن مررنا بقلعة الجبل ومقام سيدى الجيوشى أخذنا طريقنا إلى هضبة المقطم العليا، ثم أخذنا نسير فى نفس الطريق الذى يسلكه عادة الذى يقصدون (عيون موسى) وبعد ساعة مررنا بعيون موسى، ثم انحدرنا إلى وادي اللبلابة وهو واد متسع قليل الارتفاعات، فأخذنا طريقنا فيه متجهين نحو الجنوب وبعد ساعتين من عيون موسى وصلنا الغابة المتحجرة الكبرى بعد أن قطعنا نحو ١٨ كيلو متراً.
كانت الساعة وقتئذ العاشرة والنصف. وكنا على أحسن
ما نكون نشاطاً وسروراً، وكانت الشمس ساطعة، والهواء دافئاً منعشاً
وبعد أن استرحنا قليلا تناولنا ما كان معنا من الطعام. ثم انطلقنا نجوس خلال الغابة باحثين مستطلعين. فهذا جذع شجرة ملقى على الأرض تخاله من بعد أنه جذع شجرة حقيقي. فإذا تبينته عن قرب وجدته قطعة من الصخر الرملى. فالرمل قد حل مكان الخلايا النباتية بألوانها وأشكالها وتعرجاتها، وإذا طرقته بقطعة من الصخر أعطى صوتاً له رنين المعدن - وهذا فرع شجرة حل به ما حل بالجذع - وقد قضينا فى الفرجة نحو الساعتين، وكان كل شيء حتى الآن على ما يرام، ولكن لم نكد نتهيأ للرجوع حوالى منتصف الساعة الواحدة. حتى شعرنا بأن ريحاً شمالية غربية باردة بدأت تهب فى وجوهنا، ثم تلبد الأفق من جهة الغرب بسحب كثيفة، وزادت سرعة الريح. وبعد قليل انتشر فى الجو ضباب كثيف وحوالي الساعة الواحدة سقط رذاذ خفيف وبدأت الشمس تحتجب وراء السحب. فلما تغير الحال كما رأيت عولنا على العودة مسرعين، فاتجهنا نحو الشمال الغربي قاصدين السير فى نفس الطريق الذى سلكناه فى الصباح ونظراً لتلبد الجو بالضباب واختفاء الشمس. اعتمدنا فى تعرف الجهات على هبوب الريح، فجعلنا نسير فى الاتجاه المضاد لهبوبه. وبعد أن سرنا نحو ساعة بالسير الحثيث لحظت أن معالم الطريق بدأت تتغير. فلم أهتم لذلك ظناً مني أنه
ربما انحرفنا قليلا جهة الشرق أو الغرب، ولكن بعد ساعة أخرى أدركت أني أسيره فى طريق لم آلفه من قبل فساورني بعض القلق وأخذ صاحبي يسألنى عن موضعنا بالنسبة للقلعة ومتى نصل وهكذا من الأسئلة المتنوعة، كنا قد وصلنا فى هذا الوقت إلى واد صخرى عميق ظننته لأول وهلة وادى عيون موسى. ولكن بعد أن نزلناه وسرنا فيه قليلا تأكدت انه غيره - وهنا أمطرتنا السماء مدراراً فتبللت ملابسنا وتوحل الطريق فأعاقنا عن السير، ثم برد الجو، فلم نر بداً من الالتجاء إلى مغارة قريبة لنستريح فيها قليلا، فلما خف المطر استأنفنا السير فى نفس الاتجاه، وبعد ساعة أخرى أدركت تماماً أني أسير على غير هدى وأيقنت بعد أن تنكر الطريق أنى قد ظللت، فتملكني ضيق شديد وساورتني المخاوف وأخذت أندب سوء المصير فى هذه المفاوز حيث لا ماء ولا طعام ولا غطاء، ولكنى وجدت من الحكمة ان أخفي حالي عن صاحبي، فكتمت كربي وتكلفت الاطمئنان تكلفا وكنت كلما سألنى عن القلعة وعن سبب تأخرنا أجبته أنا لابد واصلان إن شاء الله، ولكن بالرغم من محاولتى إخفاء اضطرابى وتصنعى الهدوء لحظ صاحبي فى وجهى شدة الحيرة والقلق، فأخذ يشكو الجوع والبرد والتعب، وزاد الطين بلة أن ثارت فى وجهنا فى هذه اللحظة زوبعة رملية شديدة وهطل
المطر كأنه أفواه القرب فعميت عيوننا وأصبحنا غرقى فى لجة من الماء والوحل، وكنا عندئذ نسير على ظهر جبل عال لا يزيد عرضه على عشرين متراً، وعن شمالنا واد عميق جدرانه قائمة كالطور ولا يقل انخفاضه عنا عن مائة متر أو يزيد، وعن يميننا واد آخر كالأول الا أنه أكبر اتساعا وأقل انحدارا، وكان الظلام منتشراً فى كل مكان، وريح باردة عاتية تسفي فى وجوهنا الرمل والتراب باستمرار، فتعذرت الرؤية واشتد بنا الكرب وتوقعت فى كل خطوة أن نهوى فى هوة عميقة أو نسقط على الأرض من الإعياء. طلب مني صاحبى ونحن فى هذا الموقف الحرج أن نأوى إلى ملجأ يقينا البرد والمطر وشكا إلى ما حل به من التعب المضنى.
فطيبت خاطره وشجعته ثم أفصحت له عن حقيقة موقفنا بكلمات قليلة ورجوته أن يصبر، وقلت له أن الليل قد داهمنا وليس لنا من واق فى هذه الجبال الا رحمة الله. وأن الوقوف عن الحركة يضر بنا فملابسنا مبللة وبطوننا خاوية والبرد قارص ولا فائدة من التذمر، ثم أردفت ذلك قائلا: ربما كنا أقرب إلى السلامة مما يبدو لنا الآن - فلما وقف صاحبى على ما نحن فيه اضطرب كثيرا ولكن لم يلبث لحسن الحظ أن سلم أمره لله وقال سر بنا وسأتبعك فالله سبحانه يتولانا بلطفه وهدايته. ثم قال: ولماذا لا نسير فى عكس
اتجاهنا خصوصا وإنا قد جربنا السير فى اتجاه مضاد للريح ولم نصل إلى غاية. فقلت له ربما لحظت أنى دائما أسير والريح فى وجهي وذلك لأنى أعلم أن هبوب الريح فى مصر فى هذا الشهر من السنة يكون عادة من الشمال الغربى أو الغرب، فالسير فى هذا الاتجاه أسلم عاقبة ما دمنا لا نملك وسيلة أخرى من وسائل الاهتداء إلى الجهات الأصلية. ولا بد أن يؤدي بنا السير آجلا أو عاجلا إلى وادى النيل. فقال عسى! ثم سكت. وبعد أن قطعنا مرحلة أخرى رأيت من الحكمة أن التجىء إلى الوادي بسبب الظلام الدامس والبرد القارص فاخترت نقطة ظننت أنها ربما تكون أقل خطورة للهبوط إلى الوادى، وأشرت إلى صاحبى أن يتبعني وأن يكون حريصاً منتبها وأن يستجمع كل قواه حتى لا تزل قدمه فيهوى إلى الحضيض، فأومأ بالإيجاب، وفي أقل من نصف ساعة وصلنا بطن الوادي بسلام وبعد أن استرحنا قليلا أخذنا طريقنا متبعين تعاريج الوادى قائلاً فى نفسى إن كتب علينا البقاء فى هذه البيداء هذه الليلة فسنجد فى إحدى المغاور ملجأ وحماية. بعد أن سرنا فى الوادي نحو كيلومتر فطنت إلى أننا متجهان نحو منبع الوادي من اتجاه الحشائش فى أنحائها. فعدنا أدراجنا مؤملا إن نحن واصلنا السير أن نصل إلى مدخل الوادى فى وقت قريب، وعندها ربما نهتدى إلى طريق يوصلنا إلى مكان يكون لي به معرفة.
في هذا الوقت العصيب ظهرت بارقة أمل على غير انتظار بددت كثيرا من غمنا وكآبتنا وأعادت إلينا شيئا من الطمأنينة
والثقة، كانت الساعة السادسة والنصف مساء عندما أدركت أن لى بالوادى الذى نسير فيه معرفة سابقة من بعض الشواهد والعلامات. وبعد قليل ترجح عندى من تعاريج الوادى ونظامها إنا نسير فى "وادي دجلة" ثم لم نلبث طويلا حتى ثبت لى من علامة مميزة فى الحائط الجنوبى للوادى، وهى فتحة مغارة لها شكل خاص، من أن الوادى هو وادى دجلة حقيقة، فكدت أطير من الفرح وأخذتنى نشوة سرور أعجز عن وصفها ولا يشعر بمثلها الا من كان فى مثل موقفنا وحالتنا عندما تنتشله العناية الإلهية من ضيق مهلك إلى سلامة مؤكدة، ثم أخذت أفكر فيما عسى أن يكون قد جرى لنا حتى تحولنا عن وجهتنا الأصلية إلى هذا الوادى.
ووادى دجلة واد طويل يبلغ طوله من مدخله حتى نهايته نحو أثنى عشر كيلومتراً، كثير التعاريج ينتهي بشلال غاية فى الجلال. يقصده كثيرون من محبي الرحلات الجبلية للتفرج على مشاهده الفريدة ومناظره البديعة ويقع مدخل الوادي فى الشرق من "طره" وعلى بعد ساعة ونصف منها، وتمتد بينهما سلسلة من التلال تخفى مدخل الوادى وتجعل الوصول إليه متعسرا. وعقب الأمطار الغزيرة يترع الوادى بالماء ويخرج منه أحياناً سيل جارف يهدد المنطقة حول طره بالإتلاف والغرق.
وبعد أن بشرت صاحبى بالخلاص من الورطة، وبعد أن انتعش وعادت إليه بشاشته أخذت ونحن نسير فى الوادى أقص عليه بعض ما صادفته من المواقف الحرجة فى رحلاتى السابقة وكيف كنت أخرج منها فى كل مرة سالما بتوفيق الله. وبفضل الاطمئنان ورباطة الجأش وقوة ذاكرتى التى تحفظ كثيراً من العلامات المميزة للجبال والوديان التى أزورها. (يتبع)
