ذلك الكتاب المنسوب إلى فارس الفصاحة وصيقل البلاغة وإمام الخطابة، والضارب في ميدان البيان بما لم يلحقه فيه لاحق، ولا وصل إليه سابق. أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. كتاب نابه الشأن، رفيع القدر، بليغ الموعظة، صادق الحكمة، قد توفرت عليه سنين طوالاً أقرأ ما بين دفتيه مرة وأخرى وثالثة حتى بدت لي فيه آراء أردت بها تحقيق أمره. والكشف عن سره. مستنداً في بحثي الى ماهدتني إليه الفكرة وطول المراس ..
وجل الذي قيل في الكتاب كلمات مجملة. لا تشفي غليلاً ولا تقوم دليلاً، فالشيعة على أن الكتاب بجملته وتفصيله لأمير المؤمنين علي، والمنصفون من النقدة والنظار على أن فيه ما هو مدخول منحول بدعوى أنه يتعرض لبعض الصحابة بالطعن والتجريح ..
وهناك من يدعي أن الذي لعلي من القلة بحيث لا يصح أن ينسب الكتاب إليه. وعلى كل فهذه كلمات - كما قلنا - مجملة
لا تشبع الباحث. ولا توقف الناظر عند حد أو تلزمه رأياً.
وهذا ما يدعونا الى بحث المسألة على ضوء العلم والأدب والحقيقة والتاريخ. والكتاب في جملته عالي الأسلوب فخم العبارة صقيل الديباجة، لطيف الروح يتحدر إلى النفس بسهولة. والذي يدور عليه الكلام في الكتاب كما يقول الرضى (أقطاب ثلاثة أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ) وهذا تقسيم حسن، والمعقول ألا يخرج كلام أمير المؤمنين عن هذا .. فأمير المؤمنين أحد رجالات الاسلام غير مدافع. وله في الفصاحة والشجاعة والفضل والنبل يد طولى. بايع أبا بكر نزولاً على حكم الأجماع. ورضى بعمر نزولاً على اختيار أبي بكر، وأخطأته الشورى بعد ابن الخطاب، ثم انتهت اليه بعد عثمان. فكان أمير المؤمنين أربع سنين وتسعة أشهر أخذ يصلح فيها ما يراه فاسداً ويجمع كلمة المسلمين ويلم شعثهم.
وقد نقض بعض الصحابة بيعته فكانت حروب. انتهى بعدها الحكم إلى معاوية بعد تنازل الحسن. فكل هذا يدعو أمير المؤمنين إلى الخطب في شأنه. وفي صلاح المسلمين وفي رجال جيشه. يحثهم على الأخذ بحقهم، ويستنفرهم للقاء عدوهم وإلى الأوامر يصدرها إلى عماله ورجاله وأعوانه. وإلى الكتب والرسائل يبعث بها إلى الثغور والعمال، بل وتجري بينه وبين معارضيه، كل يؤيد رأيه ويقيم حجته ويدعي الحق في جهته والباطل في جهة صاحبه. أما الحكم والمواعظ فأشياء كانت في نفس على غرسها فيها حب الصلاح للناس يلقيها عليهم يبين لهم طريق الهدى ومنارة الحق ويذكرهم بالله ويفهمهم المعاش والمعاد، مما يدل على اخلاص علي وطيبة نفسه وسمو روحه وكرم أخلاقه وقوة ايمانه وحبه للمسلمين ...
ولكن الذي يعنينا هو: هل كل ما في الكتاب من خطب وأوامر وكتب ورسائل وحكم ومواعظ لأمير المؤمنين علي.؟ أم أن فيه ما ليس له .. نريد أن نعرض أمام القارئ صوراً مختلفة من الكتاب نشرحها له تشريحاً دقيقاً ثم نخرج على ما يهدينا إليه البحث. وليكن أول ما نعمل فيه المبضع الخطبة الأولى من الكتاب التي يقول الرضى في عنوانها إنها خطبة يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم، وعبارات هذه الخطبة منسجمة سيالة آخذة بعضها
بحجز بعض. وهي مبتدأة بتحميد بديع يعقبه تنزيه لله عما لا يليق به، وكلام في معرفته مترتب على بعضه على مثال القضايا المنطقية، ثم ذكر للخلق من ابتدائه إلى انتهائه على مثال ما في الكتب المقدسة، وذكر لخلق آدم ومعصيته وخروجه من الجنة. وذكر لذريته في الأرض، وكلام عن الأنبياء من أبنائه حتى انتهى إلى محمد وبعثه؛ والقانون السماوي الذي نزل به، وخص من ذلك الحق، فتكلم فيه كلاماً كثيراً. ولو نظرنا إلى هذه الخطبة لوجدنا أسلوبها أقرب إلى الأسلوب التأليفي منه إلى الأسلوب الخطابي، فهي خالية من الاندفاعات الخطابية، ويظهر على عباراتها أنها وليدة التفكير، فترتب العبارات على بعضها ترتباً مطرداً على مقتضى قوانين المنطق مما لا يتيسر في الخطابة ولا يتأتى في الارتجال، وما كان علي ليخطب غير مرتجل، والتحميد الذي في أولها (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصى نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم ولا غوص الفطن. الخ.)
هذا التحميد أشبه بالتحاميد التي تبتدأ بها الكتب. وهو يخالف التحاميد في صدر الأسلام. وهو ملحق بتنزيهات كالتي تلحق التحاميد في العصر العباسي حتى ان في العصر العباسي ما يوافقه في المعنى ويكاد يشبهه في اللفظ، ويجري معه في النسق والترتيب والروح، مما يجعلنا نرجح أنه من تحاميد ذلك العصر التي منها (الحمد لله المتعالي عن تشبيه الجاهلين، وتحديد الواصفين، وتكييف الناعتين.
يوصف لا بالعرض والطول، وينعت بغير الشبح الممثول. ويحد لا بالخلق المعدود، والجسم الموجود، بل يتناهى من وصفه، الى ما دل عليه من صنعه، ويوقف من نعته، على ما أخبر به عن نفسه. وكيف يوصف من لم يره أحد، أو يحد من لم يحده بلد، أو يشبه غير ذي أعضاء، أو يكيف غير ذي أجزاء. لو رئي لوصف، ولو وصف لمثل، ولو مثل لكان له نظير الخ) (1) فكل هذه التنزيهات من منع التحديد والرؤية، ونفي الصفات على نسق واحد في التحميدين. مما يجعلنا لا نشك في أنها وليدة عصر واحد، ونشك في أنها وليدة عصرين، ثم لو قارنا هذا التحميد بتحميدات أمير المؤمنين التي يهدينا البحث الى أنها له .. لوجدنا بوناً شاسعاً في المعنى والاسلوب والروح مما يظهر منه أن القائل غير واحد .... ثم لنا نظرة في هذه التنزيهات
وهي قوله في صفة الله (الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود. ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل محدود ... أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به.
وكمال التصديق به توحيده. وكمال توحيده الأخلاص له، وكمال الأخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه. ومن ثناه فقد جزأه. ومن جزأه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار اليه. ومن أشار اليه فقد حده. ومن حده فقد عده. ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه).. هذه التنزيهات تجري على نسق بديع من البيان والمنطق وكلها عقائد كلية في علم الكلام.
وأهم ما يطالع الباحث فيها شيئان: هما المحور الذي تدور عليه. والغرض الذي صيغت من أجله هما منع رؤية الله ونفي الصفات. فمنع الرؤية يؤخذ من العبارات الأولى، لأن الأدراك قد نفي، والرؤية أحد الأدراكات، ولأنها تقتضي تكييفا وقد دلل على بطلان التكييف. ولذلك نرى ابن أبي الحديد عند شرحه لهذا الكلام يطنطن في هذه المسألة، ويدلل عليها بأدلة المعتزلة، ويرد على الأشاعرة رداً قوياً ومعقولاً. وأما نفي الصفات فقد جاء صريحاً في قوله. (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة) .. ونفي الصفات كلام جرى بين علماء الكلام وأخذ به المعتزلة - واحتدم فيه النزاع والجدال بينهم وبين الأشاعرة. والمعتزلة ينفون الصفات بدعوى أنها تثبت تعدد القدماء، وأنه لابد من تغاير بين الصفة والموصوف،وأن الموصوف يسبق الصفة، ولذلك يحرجون الأشاعرة فيسألونهم عن كيفية قيام الصفات بالذات ان كانت زائدة عنها. والذي يعنينا من هذا الكلام أن مسألة الرؤية ومسألة نفي الصفات لم تنشأ إلا بعد نشوء مذهب الاعتزال، وإلا بعد أن اختلف واصل بن عطاء واستاذه الحسن البصري في مسألة الاختيار ومسألة مرتكب الكبيرة إن لم يتب. فلم يكن لهذه المسائل أثر في زمن علي. ولم يكن لعلي أو الناس وقت يخلون فيه إلى نفوسهم ويفكرون في مثل هذه الأشياء. وليس عندهم ما يدعوهم إلى التفكير في هذه الأشياء. وإنما كانوا في زمن الرسول والخليفتين من بعده يفكرون في الفتوح وفي انهاض الدين الجديد
وأغلب الخلاف كان في فروع الأحكام لا في أصول العقائد (1). وفي زمن الخليفة الثالث حصلت فتن سياسية أفضت الى قتله. ولم تكن هذه الفتن لتترك الناس يفكرون في مثل هذه العقائد، وفي زمن علي قام الخلاف بين أمير المؤمنين وبين ناقضي بيعته فاشتعلت به نار الحرب وانتهى الأمر إلى الأمويين. وحصل بهذا الانقسام خلاف جديد لا في الاشياء التي نحن بصددها وإنما في شيء آخر هو الامامة، انقسم الناس به إلى شيعة وخوارج ومعتدلين. . فالمعقول إذن والمعروف من التاريخ السياسي وتاريخ علم الكلام أن هذه العقائد جاءت متأخرة عن علي وزمن علي وأنها نشأت بعد نشوء مذهب الاعتزال وصارت من مسائله وكلياته ... فالدليل ناهض والحجة ناصعة على أن علياً لم يقل هذه العبارات ولا نشأت في عصره .. وربما كان الرضى قائلها. أو أنها وقعت للرضى منسوبة للأمام فالحقها بالكتاب
وبنظرة في هذه العبارات نجدها عبارات تأليفية محضة، فعبارة (نفي الصفات) وعبارة (لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف الخ) هي بعينها الجارية على ألسنة المؤلفين والباحثين في علم الكلام حتى أن ابن أبي الحديد يقول عند العبارة الأخيرة هذا دليل المعتزلة بعينه .. ويظهر على هذه العبارات بأجمعها أنها جاءت وليدة جدل وبحث، وان فيها تكلفا محسوساً جاء من إقامة الدليل المنطقي ومن قرع الحجة بأختها مما يشهد على أن هذا الكلام من أحد المتحمسين لهذا المذهب. والمنافحين عنه وأنه حدث بعد احتدام الجدل بين الفريقين.
(يتبع) - أبو حماد
