-4- لشاعرنا مذهب فى الحياة، اختاره لنفسه، وارتضاه طريقة يسير عليها، ذلك المذهب هو اختلاس الفرصة، وانتهاز غفلة الزمان، فهو قد آمن بأن الدهر لا يحسن مرة الا أساء أخرى، ولا يمد يدا الا انتزاع بشماله ما قدمه بيمينه، فهو متقلب متلون كالحرباء، وإذا كانت تلك حالة الدهر، فمن الخير للمرء أن ينتهز الفرصة التى تسنح له، فلا يدعها تفلت من يده، ولينل فيها اللذة التى تهيأت له، إذ انه من الخير للمرء ألا يدع نفسه فريسة الدهر يحط عليه بأثقاله ويعضه بنابه، ثم يأبى المرء إلا أن يساعد الدهر فيزيد السهام سهما، والجراح جرحا، وأولى له أن ينتهز غفلة الدهر فاذا نامت عينه، تمتع ما دامت تلك العين غافلة، واستمع إليه حين يقول:
واعطف على خلس اللذات مغتنما ... فالدهر فى حربه تلوين حرباء أما اختلاس اللذات من الناحية الدينية فهو يطمئنك عليها ويخبرك أن هناك الها رؤوفا رحيما لا يضن عليك بالعفو إن أنت اقترفت جرما ثم عدت إليه لابسا التوبة مرتديا ثياب الاستعطاف، فلا بأس عليك من ذنب، ولا ضير عليك من اقتراف معصية، فاقترف، واعترف، فثم كريم يهب الأقتراف للاعتراف ولقد كان من وسائل سروره التمتع بالغناء، والانصات إلى مغنية جميلة رخيمة الصوت تطربه وتسره، حتى أصبح له بسبب هذا الولوع اذن غنائية هيأت له أن ينتقد المغنيات اللاتي لا يجدن من
الغناء ولا يحسن الا مد الصوت ولو كان متنافرا، ولا يجدن اتفاق النغمات، ولا ندري إن كان شاعرنا قد اتخذ الخمر وسيلة من وسائل تمتعه بالحياة ولهو فيها، أو أن لهجة بها وتغنيه بذكرها، وتفننه فى وصفها، كان ناشئا عن تقليد لا عن عاطفة نحوها، وبعد فماذا كان موقف ابن قلاقس إزاء الحياة العلمية؟ وما مذهبه الذى اختطه لنفسه؟ وهل كان موفقا فى اختياره هذا المذهب؟
-٥-
إن كنت تبغي وطنا من العلا فاغترب
فالسمر فى غابلتها معدودة فى القضب
على أن أسعى وما على نجح الطلب
تلك هى عقيدته فى الحياة العملية، وذلك هو مذهبه الذى اختاره وارتضاه، فهو لا يرى العلا تنال إلا بالبعد عن الوطن والتغرب عن الآل، ففي ذلك نيل الأمل وبلوغ المأرب. ولعل ولادته فى ثغر الاسكندرية لها اثر فى ذلك، على أنه بالرغم من هذا لا يرى التغرب إلا وسيلة من الوسائل للوصول إلى أطماعه، فأن أخفقت فأن ذلك الاخفاق لا يفت فى عضده ولا يضعضع من قوته، فعليه أن يسعى، وما عليه نجح مطالبه، وشاعرنا لم يكن فى مذهبه ذلك مشرعا فحسب أو قانونيا يلقى القانون إلى الناس، ولا يتبعه بعمل بل كان قوله ذلك معبرا أصدق تعبير عن حياته العملية كلها، فتاريخه ينبئنا أنه كان كثير الحركات والأسفار، لم يقتصر على التنقل فى وطنه، بل غادره إلى بلاد غير بلاده وآل غير آله
رحل إلى صقلية فى شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وصقلية جزيرة قرب ايطاليا كانت تابعة للفاطميين حينا من الزمن طويلا، إلى أن تغلب عليها روجر النورماندي، وانتزعها من أيديهم، وجعلها إمارة مستقلة، وكان بتك الجزيرة أيام وصل اليها شاعرنا قائد يسمى أبا القاسم بن حجر، فاتصل به اتصالا وثيقا، ومدحه مدحا كثيرا، وتوثقت بينهما الصلة، حتى ان شاعرنا ألف له كتابا أسماه الزهر الباسم فى أوصاف أبي القاسم، ويقال إنه قد أجاد فيه، ولكن الكتاب لم يصل الينا، وعبثت به يد الزمان، وظل شاعرنا لدى أبي القاسم حول عامين، أراد الرجوع بعدهما إلى بلاده، وكان فى زمن الشتاء، فردته الرياح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور:
منع الشتاء من الوصو ل مع الرسول الى دياري
فأعادني وعلى اختيا ري جاء من غير اختياري
ولم يقتصر شاعرنا فى رحلاته على صقلية، بل ذهب الى بلاد المغرب ومدح صاحبها عبد المؤمن بقصيدة قوية الأسلوب، قوية المعاني، تدلنا على عظمة من قيلت فيه. وانصت اليه يقول:
عظمت قيمتها مذ علقت بأمير المؤمنين الأعظم
كعبة المن التى من زارها بات فى أمن حمام الحرم
قبلة الدين التى حج لها خلقه: من كافر أو مسلم
قائد الجيش الذى من راعه باسمه قبل التلاقي يهزم
يا إماما خضع الدهر له فأطاعته رقاب الأمم. . . الخ.
ثم عاد الى وطنه، ولكنه لم يستقر به المقام طويلا حتى دفعته النوى إلى بلاد اليمن، ودخل مدينة عدن، واتصل بأبي الفرج ياسر بن بلال وزير البلاد اليمنية، فأحسن الوزير صلته، وأجزل عطيته، ثم فارقه عائدا إلى الديار المصرية فانكسر المركب به وغرق جميع ما كان معه بالقرب من دهلك، فعاد الى ياسر، ومدحه بقصيدة بدأها بقوله:
صدرنا وقد نادى السماح بناردوا فعدنا إلى مغناك، والعود أحمد
وجاذبنا للأهل شوق يقيمنا وشوق لمغنينا عن الأهل يقعد
ثم أنشده قصيدة أخرى يصف فيها غرقه، وما أصابه فى البحر غير أن هذا الحادث لم يجعله يسخط على السفر والاغتراب كما قد يظن، فقد رأيناه بعد أن نجا يكرر مذهبه ويؤكده، ويقول
سافر إذا ما رمت قدرا سار الهلال فصار بدرا
والماء يكسب ما جرى طيبا، ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفيس ة بدلت بالبحر نحرا
مما يدلنا على قوة عزمه، وتغلغل مبدأ السفر والارتحال فى فؤاده، ولقد هداه حادث الغرق إلى أنه من الخطا تشبيه ممدوحه بالبحر إذ يقول:
وغلطت فى تشبيه بالبحر فاللهم غفرا
أو ليس نلت بذاغني جما، ونلت بذاك فقرا؟!
ولعل شاعرنا حينما ألقت به يد الأمواج إلى جزيرة دهلك لم يأنس بالمقام فيها، ولم يجد من حاكمها مالك بن شداد براولا رحمة، لذلك هجاها، وصورها بصورة جهنم بدليل أن خازنها مالك (ودهلك جزيرة بين بلاد اليمن وبلاد الحبشة) وظلت
أيدي النوى تتقاذفه حتى ألقت به فى عيذاب، وهي بليدة على شاطئ بحر جدة يعدى منها الركب المصري المتوجه إلى الحجاز عن طريق قوص، وهناك وافته منيته بعد أن بلغ من العمر خمسا وثلاثين سنة.
بالرغم من كثرة أسفار شاعرنا، وكثرة تنقله بين الأوطان المختلفة كان حنينه وشوقه الى مصر لا يفتران: ففي صقلية يذكر مصر، وفي غيرها يذكر مصر، ويذكر آله وقومه، ويذكر ما كان له فى تلك الديار: من صحب وأصدقاء فيحن إليهم ويقول:
يا إخوتي، ولنا من ودنا نسب على تباين آباء وأجداد
متى تنور آفاق المنارة لي بكوكب فى ظلام الليل وقاد
متى تقر ديار الظاعنين بهم والدهر يسعفهم بالماء والزاد
ويقول مخاطبا أبا القاسم بصقلية:
وعليك السلام مني، فاني عنك غاد أو رائح أو ساري
شاقني الأهل والديار وذو البعـ د معنى بأهله والديار
وتلك حالة طبيعية يمسها الرجل المفارق لوطنه، فهو يحن إليه دائما، ويشتاقه دائما
( البقية فى العدد القادم )
