الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 41الرجوع إلى "الرسالة"

٣- بديع الزمان الهمذاني

Share

رحيله عن نيسابور

فارق بديع الزمان نيسابور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. نعرف هذا من قوله وهو يمدح خلف بن أحمد أن سنه خمس وعشرون سنة. وهو مولود سنة ثمان وخمسين. ثم هو يكتب من سرخس إلى الشيخ أبى الطيب سهل بن محمد فيذكر ان الخوارزمي كتب إلى الأمير يسأله ألا يقبله فى حضرته ويذم الخوارزمي ويرد عليه دعواه الغلب فى مناظرته، ويهدده بالعودة إلى مساجلته. والخوارزمي مات فى رمضان سنة ثلاث وثمانين

ويفهم من هذه الرسالة أنه ذهب إلى مرو كذلك، يقول عن الخوارزمى، أن اللسان الذى اخرس لسانه، والبنان الذى أنبس - بيانه، لم تكسبهما مرد مجادة، ولا كسّهما سرخس بلاده. وهما معي لم يفارقانى:(١)

ولم يسم الأمير الذى نزل بحضرته فى سرخس، والظاهر انه أحد أمراء السامانية. وقد اكرم الأمير مثواه كما قال فى آخر الرسالة نفسها عن الخوارزمى: (وأما مسألة الأمير ألا يخرطنى فى سلكه ولا يمكننى من بساط ملكه فقد شملتنى على رغمه أطراف النعم، وبلتني سحائب الهمم، وللراغم التراب، وللحاسد الحائط والباب) وفي سنة ثلاثة وثمانين مات الخوارزمي ! يقول الثعالبي (وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا الجو للهمذانى، وتصرفت به أحوال جميلة، وأسفار كثيرة)

وفي رسائل بديع الزمان رسالة كتبها إلى من هنأه بمرض الخوارزمي يقول فيها: (فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها فى نفسه، ولا يعدمها فى جنسه، والشامت إن أفلت، فليس يفوت) (ص٨٢ الى آخر الرسالة )

وفى ديوانه قصيدة يرثى بها الخوارزمي ويرد على من قال: (قد خلا الجو للهمذانى) يقول فيها:

حنانيك من نفس خافت ولبيك من كمد ثابت

أبا بكر اسمع. وقل كيف ذا ولست بمسمعة الطائت؟

تحملت فيك من الحزن ما تحمله ابنك من صامت

حلفت لقدمت عن معشر غبيين عن خطر المائت

يقولون أنت به شامت فقلت الثرى بفم الشامت

وعزت علي معاداته ولا متدارك للفائت

وقال الأنام خلا الجو لي لعمري ولكن على عانت

ابيض ولكن إلى عاقر واصفر ولكن على ساكت

اكثر البديع أسفاره بعد مفارقة نيسابور. يقول الثعالبي: (ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى وجبى ثمرتها، واستفاء خيرها وميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا استمطر منه بنوء، وسرى معه فى ضوء، ففاز برغائب النعم، وحصل على غرائب القسم) ويقول الهمذانى فى رسالته إلى القاسم الكرجي: (فإنى وإن كنت فى مقتبل السن والعمر، قد حلبت شطرى الدهر، وركبت ظهرى البر والبحر، ولقيت وفدى الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر)

وفي رسالة أخرى: (وإنى أيد الله القاضي، على قرب العهد بالمهن قطعت عرض الأرض وعاشرت أجناس الناس.)(١) وليس يمكن بما عندنا من الرسائل غير المرتبة أن نتتبع أسفاره فى خراسان

وسجستان وغزنة، ولكننا نعرف أنه فارق خراسان لما وقع بها من الحروب، والظاهر أنها الحروب التي وقعت فى أواخر الدولة السامانية، ونعرف إن الأتراك قطعوا الطريق عليه وهو ميمم سجستان كما قطع الأعراب طريقه وهو قاصد نيسابور من جرجان: (ولما وقع بخراسان ما وقع من حرب، وجرى ما جرى من خطب، واضطربت الامور، واختلفت السيوف، والتقت الجموع وظفر من ظفر، وخسر من خسر، كتبني الله فى الأعلين مقاما، ثم ألهمني من الامتداد عن تلك البلاد، والإقلاع عن تلك البقاع. واعترضتنا فى الطريق الأتراك. واحسن الله الدفاع عن خير الأعلاق وهو الرأس، بما دون الأعراض وهو اللباس. فلم نجزع لمرض الحال مع سلامة النفوس، ولم نحزن لذهاب المال مع بقاء الرؤوس. وسرنا حتى وردنا عرصة العدل، وساحة الفضل، ومربع الحمد، ومشرع المجد، ومطلع الجود، ومنزع الاصل، ومشعر الدين، ومفرع الشكر، ومصرع الفقر، حضرة الملك العادل أبى أحمد خلف بن احمد الخ)،(١) هذا هو الذى مدحه فى ست من مقاماته، وبعض رسائله مدحا لم يبذل لغيره مثله، ولكن بديع الزمان لم يعفه العتب الموجع حين آنس منه الإغضاء عنه.

ثم ذهب الهمذانى إلى غزنة حاضرة الدولة الغزنوية ومدح السلطان محمودا بأبيات. ولا نجد فى رسائله تفصيل مقامه فى غزنة ولقائه السلطان. ولكننا نجد له رسائل كثيرة إلى الفضل بن أحمد الاسفرائيني وزير السلطان يذكر بعض خطوب هذه الدولة، ويهنئ ببعض فتوحها والأبيات التي مدح بها السلطان مثبتة فى الديوان، وفي اليتيمة وأولها:

تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيمانى

أأفريدون فى التاج (م) ... أم الاسكندر الثانى؟

أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان

أظلت شمس محمود ... على أنجم سامان

في هراة

ثم سار إلى هراة ليرحل عنها كما رحل عن غيرها، ولكن كتبت له الإقامة بها حتى الممات. يقول فى رسالته إلى الشيخ أبى نصر انه سار من سجستان إلى بوشنج، وانه لما سكنت الحرب وانفتحت

السبل استأذن الأمير فى المسير إلى هراة. ويقول فى رسالة أخرى

(ويا سبحان الله ما علمت إن هراة تنسيني صرصر والصرات، حتى انستنى دجلة والفرات، على ظهر الغيب نظر الريب. فكيف بنا إذا دخلناها وحللناها فسقاها الله من بلد، وأهلها من عدد.) (1) وذلك إن بعض الهرويين أرسل إليه مرحبا قبل دخوله المدينة، ويظهر من رسائله انه لم يغتبط بالإقامة فى هراة أول عهده بها، ولا أزمع المقام فيها، يقول فى رسالته إلى الشيخ أبى النصر (كتابى أطال الله بقاء الشيخ، والماء إذا طال مكثه، أظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه) .

كذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذ طال ثواؤه، ويثقل ظله، إذا انتهى محله. قد حلبت اشطر خمسة اشهر بهراة ولم تكن دار مثلى لولا مقامه. ونجده: فى رسالة أخرى يشكو حيفا أصابه فى هراة. (والله، أطال الله بقاء الشيخ الرئيس، ما سكنت هراة اضطرارا، ولا فارقت غيرها فرارا، وإنما اخترتها قطنا ودارا، واخترته سكنا ودارا، لتكون أرفق لى من سواها، ولأزداد به عزا وجاها. فإنه كان قد ثقل مقامى، فالدنيا أمامى، وإن كان قد طال ثوائي، فالانصراف ورائي، لست والله ذباب الخوان ولا وتد الهوان. والشام لي شام، مادام يكرهنى هشام، وهراة لي دار، ما عرف لي فيها مقدار، وقرى الضيف غير السوط والسيف الخ) فهذا يدل على أنه غير مطمئن إلى هراة وإن أختارها سكنا. ونجده فى الديوان يقول من قصيدة مدح فيها ابن عدنان رئيس هراة.

قد طال مكثي فى هراة فهل لكم   فى أن أوليكم قفا الأعراض

ولو أننى ماء الحياة لملني ورداه وتنكبوا أحواضى

أحسنتم يا للكرام ضيافتى عند الورود فاحسنوا إنهاضى

ولكن بديع الزمان، على هذا ألقى عصا التسيار فى هراة واتخذها موطنا وأمضى بها بقية عمره. فما الذى بدل رأيه وحبب إليه المدينة؟ يقول الثعالبي: (ومازال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر القديم والحديث حتى وفق التوفيق كله وخار الله له فى مصاهرة أبى علي الحسين بن محمد الخشنامى. وهو الفاضل الكريم الأصيل الذى لا يزاد اختبارا إلا زيد اختبارا فانتظمت أحوال أبى الفضل بصهره، وتعرفت القرة فى عينه، والقوة

فى ظهره. واقتنى بمعونته ومشورته ضياعا فاخرة، وعاش عيشة راضية. (١)

وفي رسائل الهمذانى تصديق خبر الثعالبى، فهو يقول فى إحدى رسائله من هراة (والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفلة كفرخ يومين، قد حببت إلى العيش، وسلبت عن رأسى الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام (ص١٦٢) وهو يتكلم فى رسائل هراة عن الزرع والاكرة والخراج وديونه على الناس والسفاتج

(والشأن أن أعيش عيش الجعل، بين السرقين والعمل، وأنا على ذلك محسود. . . أرأيت رجلا يندم أن ولده آدم، أو يألم أن يسعه العالم، يحسد فى قرية يشتريها،(٢) وفى رسالة إلى بعض وزراء السلطان محمود: ومما أبث الشيخ الجليل، إن مبلغ خراجي بهراة ألفان. وعلى المخف من الجريان ثلاثة مدورة، بيض مقشرة، وعلى المثقل تسعة وعشرة. ووددت لو أمكن التبلغ بأقل من هذا فأفعل ولكن أفواها فاغرة، وأضراسا طاحنة، وعيالا وأذيالا، الله وكيلهم وأنا ربهم وأكيلهم. وإن أمكن تحويل هذا المقدار من الخراج ببوشنج لتتوفر حقوق بيت المال، وأصان عن مجازفات العمال، وتبعات الحال، فتلك غاية الآمال،(3) وفى رسالة إلى والده: وقد رسمت لموصل كتابى هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج، وأن يرتب له عمارة شتوية تسعه والشيخ الفاضل العم، فليتفضلا وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين فما يعجبني لقاء ليس له بقاء، ولا وصل بعده فراق، فإن لم يمكن استصحاب القوم فلا يتأخر بنفسه، فسيرد على خمسمائة نير وألف أكار، وأحوال منتظمة، وأسباب مستقيمة)) .

ومن اجل هذه الثروة قصده الناس واستماحوه. وفى رسائله واحدة كتبها إلى مستميح عاوده مرارا: عافاك الله: مثل الإنسان فى الإحسان مثل الأشجار فى الإثمار. سبيل من أتى بالحسنة أن يرفه إلى السنة. وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدى. أما الفؤاد فيعلق بالوقود، وأما اليد فتولع بالجود. ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، الخ ."(ص١٩٧)

وفاة بديع الزمان

كان الهمذانى يتعجل العمر ويستكثر السنين فهو يتكلم عن

الشيب فى مدحه خلف بن احمد وهو فى سن الخامسة والعشرين، ويرحب بالشيب ويفضله على الشباب وهو فى سن الثلاثين: فجزى الله الشيبة خيرا، إنها لأناة، ولا رد الشبيبة إنها لهناة وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه، وبئس المثل النار والعار وونعم الرائضان الليل والنهار. وأظن الشباب والشيب لو مثلا لكان الأول كلبا عقورا، والأخر شيخا وقورا، ولأشتعل الأول نارا وانتشر الآخر نورا. والحمد لله الذى بيض القار وسماه الوقار.

وعسى الله ان يغسل الفؤاد كما غسل السواد. أن السعيد من شابت جملته، والشقي من خضبت لحيته)(١) وفي رسالة أخرى: وأسال الله خاتمة خير وعاجل وفاة. إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها.(٢) فهذا ينم عن طبع مكتئب وصدر يضيق بالحياة وكأن وفاته فى سن الأربعين كان استجابة العمر لهذه السجايا. فى رسائله رسالتان يذكر فيهما مرضه، يقول فى إحداهما (وقد عملت فى أمر الدواء ما أشرحه له شفاها. وجملة الأمر أني أؤمل النفع فى تناوله، وحالي الآن صالحة) ويقول فى الأخرى (ولكني وقيذ أوجاع، أنتقل من حمى إلى صداع. وأخشى أن يأخذ مني لفح الهواء مأخذه، فلذلك لا أبرز عن البيت، وأنا فيه حى كميت.

وعلى كل حال فإذا خفت وطأة الهواء، وحان وقت المساء، لعبت لعباتى إلى حضرته، متزودا من طلعته إن شاء الله تعالى) وما أدري متى أصابه هذا المرض وهل كان مرضه الأخير أو غيره.

ويقول الثعالبي (وحين بلغ أشده وأربى على الأربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. ويقول جامع الرسائل فى عنوان رسالة (وله فى تهنئة فتح الجابية بباب بلخ. وهذا آخر كتاب أنشأه. ومات يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.) يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية