الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 44الرجوع إلى "الرسالة"

٣ - بين الموسيقى الشرقية والغربية

Share

لانعام

يضم جميعا من الخلان حفل يستمعون فيه إلى مغني عذب  أو موسيقى شجية، وقد ملكت البابهم النغمة، واستأثرت بمشاعرهم  المثاني والمثالث، ولا تتعدى معرفتهم باللحن أو المعزوفة عن أن  اسمها كذا، وأن مؤلفها هو فلان، ولكن اخذهم قد يهتف فى  نشوة  من الطرب، ما أحلى هذه الترجيعة (البياتي) أو ما أجمل تلك  الحركة (السيكاه)!: فينظر الي رفقاؤه نظرة تقدير واعجاب،  ويعتدل هو فى جلسته مزهواً مستزيداً من اشارته، وايماءاته، كيف  لا وقد وفق لسر من أسرار الانغام وسيرها، وأطلع رفاقه على قدر علمه ومعرفته! ولو عرف الرفاق أن القدرة على تعيين النغمة لمجرد سماعها، إن أعوزها شئ من الخبرة بالمران، فهي ليست من الخطر بالقدر الذى يتصورونه، لاقتصدوا فى  تقديرهم واعجابهم.

أما أنا، فأذكر أني وفقت فى صغري إلى جلسة ضمت جمعا من الوافدين في ليلة من ليالي رمضان المكرم، وقد اجتمعوا حول شيخ  مقرئ يسمعهم طرفا من المولد، وقد استولى عليهم الطرب الممزوج بالخشوع، ولم يكد ينتهي حتى أسرعوا يكبرون ويمدحون  الشيخ المقرئ وبراعته وصوته الحنون القوي. ثم تكلم أحدهم،  وكانت له عند الشيخ مكانة وله عليه دالة، فطلب قصيدة (يا نسيم الصبا)، وأردف طلبه قائلا (والله يا سيدنا، اني أحب نغمة الصبا هذه، ولا أكاد أحبس الدمع عند سماعها.) فهمهم الشيخ ودمدم  وأراد أن يرد الحق إلى نصابه ويمنع الخطأ أن يروج فقال (يا بني هذه القصيدة من نغمة الحجاز). وكأنه شعر بقدر الخيبة التى لحقت  الطالب فاسرع بانشادها تعويضا له، فكان هذا أول درس وعيته فى علم النغم، وكنت بعدها كلما سمعت نغمة طبقتها على (يا نسيم  الصبا)، فأن وافقتها فهي حجاز، وان خالفتها فعلمها عند الله والراسخين فى العلم. ومن بعد (نسيم الصبا) عرفت أن مارش (عباس) من  نغمة (النهاوند) وأن (يا طالع السعد) (رصد)، وهكذا  أصبحت أقيس كل ما أسمعه على معرفته، وبذا أستطيع تعيين  نوع النغمة.

غير أن علماء الانغام يرون أن ميزان الاذن قد لا يعدل، وأن هذه الطريقة الساذجة لا تصح أن تكون حجة علمية دقيقة يعتمدون  عليها فى قوانينهم وأبحاثهم، فهم لذلك يعمدون إلى تحليل النغمات تحليلا صوتيا حسابيا، ويفرقون بين درجات السلم الموسيقي بنسب  مضبوطة ثابتة لا يعتورها خلل، ولا تعرض للأحداث والغير

وأرى هنا قبل أن أتحدث عن تقسيم النغم الشرقي والغربي أن أثبت التقاسيم العامة فى المسلمين ليظهر جليا تركيب التقسيم فى السلم  الشرقي وبساطته فى السلم الغربي.

1 - السلم الغربي (من اليمين إلى اليسار تنازليا) دو - سي - لادييز - لا - صول دييز - صول - فاد - فا - مي - ر ى د - رى - دود - دو

والمسافة بين كل هذه الاقسام متساوية فى السلم المقرب Tempere وهو المستعمل فى العالم الغربي الآن وتساوي نصف مسافة كاملة ١٥/١٦

٢ - السلم الشرقي

٨/٩     ٣٠٤٨/٣١٨٧     ٥٩٠٤٩/٦٥٥٣٦    ٨/٩

نوا - تيك حجاز - حجاز - نيم حجاز - جهار كاه - تيك - بوسلك - سيكاه - تيك - كردي - دو كاه - تيك - زنكلاه - نيم - رصد

٣٠٤٨/٣١٨٧     ٥٩٠٤٩/٦٥٥٣٦    ٨/٩

- رصد - تيك - كوشت - عراق - تيك - عجم عشيران - حسيني عشيران - تيك - قباحصار - قباحصار - نيم قباحصار - يكاه

٨/٩    ٣٠٤٨/٣١٨٧     ٥٩٠٤٩/٦٥٥٣٦    ٨/٩

نوا - تيك - حجاز - حجاز - نيم - جهار كاه - تيك - بوسلك - سيكاه - تيك - كردي - دوكاه - تيك - زنكلاه - نيم - رصد - تيك - كوشت - عراق - تيك - عجم عشيران - حسيني عشيران - تيك -  قباحصار - قباحصار - نيم - قباحصار - يكاه

٢٠٤٨/٢١٨٧     ٥٩٠٤٩/٦٥٥٣٦      ٨/٩

ويراعى فى تقسيم هذه المسافات، النسب التى ذكرناها تحت  باب السلم الموسيقي الشرقي فى عدد أسبق من الرسالة.

وقد رأى موسيقيو الغرب ان كل ما يستعملونه من الانغام  ينحصر في نوعين رئيسيين، اطلقوا على أحدهما اسم النغمة الكبرى Mode majeur والثاني اسم النغمة الصغرى Mode mineur وجعلوا الدرجة الاساسية للسلم الكبير Gamme majeur  هي

دو وللسلم الصغير لا. وينسبون اسم النغمة الاساسية فيقال نغمة  دو الكبيرة Do Majeur ونغمة لا الصغرى La Mineur  ولا بأس من أن نوضح هنا نسب المسافات بين الدرجات فى سلمي النغمتين.

النغمة الكبرى دو ١٥/١٦ سي ٨/٩ لا ٨/٩ صول ٨/٩ فا ١٥/١٦ مي ٨/٩ ري ٨/٩ دو النغمة الصغرى لا ٨/٩ صول ٨/٩ فا ١٥/١٦ مي ٨/٩ ري ٨/٩ دو ١٥/١٦ سي ٨/٩ لا

وقد جعلوا شرطا فى  كل لحن ان ينتهي بالدرجة الاساسية  Tonique فى نغمة دو يجب أن تكون آخر درجة فى ختام اللحن هى دو وكذلك فى لا. كما أنهم أباحوا للملحن أن يختار أي درجة من درجات السلم الموسيقي لتكون درجة اساسية للحن مع  مراعاة النسب المفروضة للنغمة المستعملة سواء أكانت الكبرى أم  الصغرى، وجوب انتهاء اللحن بالدرجة الاساسية.

وقد رؤى بعد ذلك أن هناك نوعين من النغمة الصغرى إحداهما تشابه النغمة وهبوطها، والأخرى يختلف السلم هبوطا عنه صعودا إذ يرسون موقع الدرجة السادسة نصف مسافة فى الصعود، وعند الهبوط تكون النسب بين الدرجات هى نفس نسب النغمة الكبرى وسميت النغمة الاولى بالصغرى المطربة Mineur Melodique والثانية بالصغرى المتوافقة أو المتجانسة Min. Harmonique  كما فرضوا أن من الشروط اللازمة فى علم الانغام ان المسافة التى بين الدرجة السابعة والثامنة يجب ان يكون مقدارها نصف مسافة، كاملة وسميت الدرجة السابعة فى السلم بالدرجة الحساسة Note Sensible - وان كنت لا ادري مصدر هذه التسمية -  واحسب ان علماء النغم انفسهم لا يستطيعون لذلك تفسيرا دقيقا. هذا فى الموسيقى الغربية، أما فى الموسيقى الشرقية فشد الله ازر المشتغلين بالانغام فيها، ويسر لهم من أمرها ما عسر، فلا قاعدة عامة، ولا نغمات معدودة محصورة يسهل على الفكر ادراكها وتحديدها. وإنما هى نغمات تعد بالمئات، ولكل نغمة قاعدتها الخاصة أو قل قواعدها فى ترتيب النسب لمسافاتها ودرجاتها. ولذا يستحيل علينا ان نجد عالما شرقيا، مهما بلغ به العلم، قد الم بكل هذه النغمات وأحاط بها. وليس هذا يعني أن كل النغمات فى الموسيقى الشرقية عسيرة المطلب شاقة المنال، بل أن فيها من الانغام ما يستطيع الموسيقي العادي ان يلم بها بدون حاجة إلى جهد أو كبير  عناء. بل إن من هذه النغمات ما يجعل الموسيقى الغربية فى يأس قاتل لعدم بلوغها تلك المرتبة من دقة التقسيم وعذوبة التوقيع وحساسة الاذن

وفي الموسيقى الشرقية اختلاف عن بساطة التسمية للنغمات الغربية  فقد قلنا فى النغمات ان النغمة الكبرى أو الصغرى يصح ان تنتقلا على كل درجات السلم محتفظين باسميهما مع نسبة  اسم الدرجة التى  تعتبر أساسية إلى النغمة. أما فى الموسيقى الشرقية  فلا يمكن حصر النغمات. ولنأخذ مثلا النغمات التى درجتها الاساسية الرصد، وأولها نغمة الرصد، ثم السوزناك والحجاز كار والنهاوند  والنوا أثر والنكريز وطرزنوين والسازكار، وهكذا إلى حوالي الثلاثين نغمة.، ولا يقتصر الأمر على هذا. وينهج النهج الغربي عند  اعتبار درجة اساسية اخرى غير الرصد للنغمة بل يزداد التعقيد، فمثلا نغمة الحجاز كار ودرجتها الاساسية الرصد وسلمها الموسيقي  كما يلي:

كردان ٣٠٤٨/٢١٨٧ أوج حصار ٣٠٤٨/٢١٨٧ نوا ٨/٩ جهاركاه ٣٠٤٨/٢١٨٧ سيكاه

٣٠٤٨/٢١٨٧ زير كوله ٣٠٤٨/٢١٨٧ رصد ٣٤٣/٢٥٦ × ٨/٩  

فلو اتخذنا درجة الدوكاه أساسا لهذه النغمة فان اسمها يتغير  ويصبح مشهناز، ولو اتخذنا نفس هذه النسب أيضا لدرجة أساسية  هى الحسيني عشيران لتغير اسم النغمة وأصبح سوزول وباتخاذ درجة  اساسية هى العراق يصبح اسم النغمة اوج أرا، ويقول الراسخون فى علم الانغام الشرقية - ولسنا نعرض لقولهم الآن - ان هذا التركيب  والتعقيد فى اختلاف اسماء الانغام وتنوعها مع تشابهها لهو عقدة  فنية محبوكة، والفخر كل الفخر لمن استطاع ان يلم من هذه الانغام باكثرها تعقيدا واكثرها غرابة فى الاسم والتصوير، ثم يعللون هذا أيضا بأن تلك الانغام وان تشابهت حقا فى ترتيب سلمها فان  هناك اختلافا بسيطا فى سير النغم عند الصعود أو الهبوط.

هذا أبسط مثل لنغمة واحدة فى انتقالها على ثلاث درجات مختلفة، ولو اردنا ان نحصر عدد الانغام التى يمكن تكوينها على  درجات السلم الشرقي وعددها اربع وعشرون. من النغمات التى درجتها الاساسية هى الرصد فقط لاحتجنا إلى خبير حسابي ليستعين بعمليات التباديل على اجابتنا إلى ما نرغب. ولما كان الغرض من هذا  البحث هو التعرض بوجه عام إلى الفروق الظاهرة بين الموسيقى  الشرقية والموسيقى الغربية، فانا نرجئ التكلم عن محاسن ومساوئ  الموسيقى الشرقية إلى أجل قريب.

اشترك في نشرتنا البريدية