الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 31الرجوع إلى "الثقافة"

٣ - رشيد الدين العمرى الكاتب، المعروف بالوطواط

Share

أشرت في المقال السابق إلى رسالة كتبها رشيد الدين لكاتب لج في استعارة المدواة والقلم ، ووعدت أن أنشرها على حدة .

ويقول رشيد الدين في صدر الرسالة إنه اعتكف فى الزاوية وترك الأعمال ، وهجر الديوان ، هربا من إلحاف هذا الكاتب في طلب أدوات الكتابة واستهزائه بحاشيته وخدمه.

ولا يعقل أن كاتبا رئيسا كرشيد الدين بترك عمله لمثل هذه العلة.

وإنما تأويل هذا أن رشيدا كما قدمت ، هرم في خدمة ملوك خوارزم فأعفى من العمل . وأحسب هذا الإعفاء لم يكن أمرا بترك الديوان ، ولكن كان بتكليف غيره أعباء العمل ، وتخبيره هو في أن يجلس في الديوان أو يلزم واره كما يشاء ، رعاية لحق خدمته ، وسابق بلائه . فلما أثقل عليه هذا الكاتب ، وتصرف في الديوان تصرف الرؤساء ، واستهزأ بأعوان رشيد الدين ، ولج في استعارة أدوات الكتابة ، عز علي الرئيس القديم أن يخالطه ، فاثر العزلة،

فلما سأله هذا الكاتب : لماذا ترك الديوان وآثر الراحة ؟ أجابه الوطواط بهذه الرسالة .

وهى رسالة فكاهية ، فيها من صور ذلك العصر صورة طريفة ، ومن ملح كتاب ذلك الزمان ملح رائقة .

ويتبين القارئ سلاسة الكتابة وسلامتها من التكلف مع التزام السجع في أكثر فقرها . وهو أسلوب كبار الكتاب في القرن الرابع وما يليه ، قبل أن يساير الكتاب

الشعراء في تزيين العبارات ، وإيثار الألفاظ على المعانى .

وفيما يلى نص الرسالة : عداتنى أدام الله بهجتك ، وحرس عن المكاره مهجتك ، على اعتكافي في الزاوية ، والتحافي بالعافية ؛ وقلت لم تركت الأعمال وفوائدها ، والأشغال وعوائدها اعلم أدام الله سعادتك ، وزين بالكرم عادتك ، أني إنما طلقت منافع الديوان ، وودعت مجامع الاخوان ، هربا من إلحافك في الاستماحة ، وفرارا من إجحافك في الاستباحة . كم أصبر علي تهبك دواتى وقلمى ، واستهزائك بحاشيتى وخدمى . أيها الكاتب أين دواتك وقلمك ؟ بل أيها الغاصب أين حياؤك وكرمك ؟ لاشئ أقبح من ذى صناعة لا يكون معه أدانه ، ولا خزى أفضح من ذى كتابة لا يصحبه قلمه ودوانه ، سمعت فيما بلغنى من النوادر المطرية والحكايات المضحكة ، أنه كان بنيسابور مكار يعرف بأبي سعيد المعتوه كثير الجنون قليل السكون ، يضجر من الذباب يطير ، ويغضب من الشرار يستطير ، وله حمار في حد عمار فبان بل أضعف قوة ، وأتحف بغية ؛ أضناء مس الآفات ، بل أفناء قطع المسافات ، لم يبق من لحمه إلا اليسير ، ومن عظمه إلا الكسير ، فاتفق أن اكترى حماره هذا بعض التجار القاسية قلوبهم ، الفاشية عيوبهم ، إلي بغداد ، وحمله من أصناف بضائعة ، وأنواع بدائعة وودائعة ، حملا ثقيلا تعرق الجمال من ثقله ، وتشفق الجبال من حمله ، ثم إنه علق من أحد جانبيه مطهرة مملوءة بالماء ، ومن الجانب الآخر سفرة محشوة بالخبز والحلواء ،

وألقى عليه فروة ولبادة ، وحشية ووسادة ، ولا تسأل عن القدر والمغرفة ، والفأس والمجرفة ، والنخ الذي يقرشه إذا نام ، والخف الذي يلبسه إذا قام ، وغير ذلك مما يحتاج إليه التاجر لمرمة أحواله ، ويفتقر إليه المسافر في حله وترحاله . ثم بعد هذا كله استوى التاجر عليه ، وأدلى رجليه ، كأنه أساب ملك نقليس ، أو استولى على عرش بلقبس ، والحمار تحت هذه الأثقال لا يمكنه السير ، ولا يرجى منه الخير ، إذا ضرب ضرط ، وإذا حرك سقط ، والمكارى يبكي طول الطريق دما ، ويتنفس الصعداء ندما ، ويقاسى من وعثاء السفر ، ولأواء الخطر ، وجور المكترى وجفائه ، وتكدر العيش بعد صفائه . ما يطيل العناء ، ويزيل العزاء ، إلي أن جر مهجته الحزينة ، وحشاشته المسكينة ، بعد اللتيا والتى إلى بغداد ودخلها وقت السحر وطلب محلة يسكنها طوائف التجار ، وينزلها الواردون من الأقطار ، فحط فيها الرحال ، وطرح الأحمال ، وشد الحمار ، ونفض عن عطفية الغبار ، وتوضأ في الساعة ، وصلى الفجر مع الجماعة ، وما أرغب الملهوف فى الصلوات ، وأحرص المظلوم على الدعوات ! فلما فرغ من صلاته ودعائه ، وهدأ من تضرعه وبكائه ، وهم بالخروج من المسجد ، سمع صيحة هائلة من ناحية درب المحلة ، كادت تفشق لهولها الجيوب ، وتنفطر لقرعها القلوب ، فعدا إلى الدرب ليسأل عن المهم ، والأمر الملم ، فإذا المحتسب عند الدرب مع درته ، وصاحب الشرطة لابس ثوب شرته ، والعامة أكثر من أن يحصى عددهم ، والنظارة أزيد من أن يستقصى مددهم . فقال المكارى : ماذا حدث ؟ قالوا : في هذه المحلة تاجر فاجر ، قد أخذ البارحة ، يرتكب الفعال الفاضحة . وانتزعوا التاجر من داره ، واستخرجوه من وجاره ، وتتابعت عليه الصفعات المعمية ، والجلدات المدمية ، وسودوا محياء ، وطلبوا حمارا يركبونه إياه ، ليطاف به حول البلد للنسكال والعبرة . وكان حمار المكارى بمرأى من

عيون العامة فتعادوا إليه ، وأجلسوا التاجر عليه ؛ والمكاري يعدو ويصيح ، ولكن حين لا يغني الصياح ، وقامت القيامة في السوق ، باللعن على أهل الفسوق ، والعامة ويمون التاجر بالبعرة ، ويشيعونه بالتعرة ، إلى أن طيف به جميع محلات البلد ، والبلد بلد بغداد ؛ فلما حان وقت المساء ، وانسدل سجف الظلماء ، خلى عن التاجر ورد الحمار إلي المكاري ، ساغبا ، لا غيا ، جائا ، نائما ، يكاد يسلمه الطوي (١)  ، للنوي (٢) ، ويسوقه الصدي ، إلي الردي . فأخذه المكاري أخذ المترحم ، ومد أذنيه ، ومسح عينيه ، وقرأ فاتحة الكتاب ونقل عليه ، وزاد في علفه ، خوفا من تلفه ، وبات تلك الليلة كما قال النابغة :

فبت كأن قد ساورتنى (٣) ضئيلة

من الرقش في أنيابها السم نافع

ولم يفرغ سحابة الليل ، من الحزن والويل ، فلما نعر ديك الصباح وصاح . وزهر كوكب الأصباح ولاح ، قام المكارى من مهجعه ، ووثب من مضجعه ، وكاد يشتغل بالوضوء ، إذ قرعت سمعه صيحة أشد من الصيحة الأمسية ، فترك الوضوء وأسرع إلى الدرب ليفتش عن الحادث ، والخطب الكارث ؛ فإذا المحتسب بالباب ، وصاحب الشرطة كاشر الناب ، والعامة أشد هجمة ، وأكثر زحمة ، مما كانوا بالأمس . فقال المكارى : ماذا وقع ؟ قالوا : ذلك التاجر أخذ كرة أخرى ، في فعلة أشد خزيا ونكرا ! فقال المكارى : إنا لله : قصم الله ظهره ، ورزقنا جارا غيره ، ثم عدا إلى حماره ، ليواريه فى بيت جاره ؛ فسبقه بعض العامة إليه ، وأجلسوا التاجر عليه . فشق المكارى جيبه ولطلم وجهه ، وشج رأسه ، وتمرغ في التراب ، من فرط الحزن والاكتئاب ، وقال لا مرحبا بهذه السفرة المنحوسة ، والحركة المعكوسة ؛ ما أشد عجمها للعود ، وأبعد نجمها عن السعود . وكان على هذه الصفة إلى أن مد الليل البقية على الصفحة التالية

رواقه ، وضرب الظلام أرواقه ، فخلى عن التاجر ، ورد الحمار إلي المكارى ، وقد تمزق إهابه ، واسترخت أعصابه وسار لا يقدر على الحراك ؛ وأني له وقد نشبت به أظافر الهلاك ؟ فأخذه المكارى المجنون ، ونحي بردعته وإكافه ، وفرق أعضاءه وأطرافه ، وسقاه الماء ، وترك بين يديه الإناء ، وكان من صدر الليل إلي عجزه ، مستلب القرار ، في مداواة الحمار . فلما انتشر أعلام الضو ، في أقطار الجو ، صكت أذنه صيحة أشد من الصيحتين الأوليين فوثب من مرقده ليتفحص عن الحال ، والداء العضال فاذا المحتسب عند الدرب ، وصاحب الشرطة مشمر للضرب ، والعامة مجتمعة ، والاصوات مرتفعة . فقال المكارى ؛ ماذا طرق ؟ قالوا : التاجر أخذ كرة ثالثة ، في مثل تلك الحادثة . فقال المكارى : استأصل الله شأفته ، ودفع

عنا آفته . وقفز إليه ، يحرق (١) الأرم (٢) عليه ، وأخذ بإحدي يديه يلييه، ولكمه بالأخرى لكمة ضعضعت أركانه ، وقعقعت أسنانه ؛ وقال بقلب حنق ، وصوت مختنق ؛ يا خبيث الطبيعة ، إن كنت لا تتوب من هذه الخلة الفظيعة ، ولا تصير عن هذه الخصلة الشنيعة ، فاشتر حمارا ر تركبه أوقات النكال ، وساعة الوبال ، فقد أهلكت حماري ، وأزلت قراري . وها أنا أقول لسيدنا قول المكاري للتاجر الفاجر : إن كنت كاتب الملك فهيء النقس والطرس ، وإلا فالزم البيت والعرس ، فقد فسدت دواتي وقلمي ، وأطلت عنائى وألمى .

اشترك في نشرتنا البريدية