الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

٤ - بلاط الشهداء، بعد ألف ومائتى عام

Share

وبينما قامت الدولة الاسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت فى جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية ومجتمعات اسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، اذا بمجتمع القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال ما يزال اذا استثنينا مملكة الفرنج على حالته من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية فى هذا الصراع الذى نشب فى سهول فرنسا وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين الى فرنسا فى ربيع سنة 732، وكان سيل الفتح الاسلامى ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاما أعنى مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا ثم اقتحموا بعد ذلك وادى الرون واكوتين أكثر من مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية وتقتتل حول السلطان والرياسة حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأتفق أعواما أخرى فى توطيد سلطانه؛ بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين يتلقى وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الاسلامى وانساب نحو الشمال حتى بورجونيا منذ ولاية الهيثم فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية فى أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها.

وكان الخطر داهما حقيقيا فى تلك المرة لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ فى أكبر جيش حشد وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الاسلامى قائد وافر الهمة والشجاعة والبراعة هو عبد الرحمن الغافقى وهو أعظم جندى مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته فى القيادة منذ موقعة تولوشة حيث استطاع انقاذ الجيش الاسلامى من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح والارتداد الى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية فى تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب الى الحقيقة والمعقول. بل لقد أثارت هذه الغزوة الاسلامية الشهيرة وهذا الجيش الفخم خيال الشاعر الأوربى الحديث، فنرى

الشاعر الانجليزى سوذى يقول فى منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط :

(جمع لا يحصى، من شام وبربر وعرب وروم خوارج. وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة. يجمعها ايمان هائم راسخ الفتوة. وحمية مضطرمة واخوة مروعة. ولم يك الزعماء أقل ثقة بالنصر. وقد شمخوا بطول ظفر. يهيمون بتلك القوة الجارفة التى أيقنوا أنها كما اندفعت حيثما كانوا بلا منازع ستندفع ظافرة الى الأمام حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق. يطأطيء الرأس اجلالاً لاسم محمد. وينهض الحاج من أقاصى المنجمد. ليطأ بأقدام الايمان الرمال المحرقة. المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضى مكة الصلدة ) (١)

ونفذ عبد الرحمن فى جيشه الزاخر الى فرنسا كما قدمنا فى ربيع سنة 732م (أوائل سنة 114هـ) واقتحم وادى الرون وولاية اكوتين وشتت قوى الدوق أودوا طبق ما أسلفنا، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف اللوار. وتقول بعض الروايات الكنسية أن أودو هو الذى استدعى عبد الرحمن الى فرنسا ليعاونه على محاربة خصمه (كارل مارتل). ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة لما قدمنا من أن أودو هو الذى بادر الى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين. وكان ملك الفرنج يومئذ تيودريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا فى ذلك العصر أشباحا قائمة فقط. وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقى يستأثر بكل سلطة حقيقية وعليه يقع عبء الدفاع عن ملكه وأمته، وكان منذ استفحل خطر الفتح الاسلامى يتخذ أهبته ويحشد قواه، ولكن عبد الرحمن نفذ الى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الاسلامية هذا البطء الى خطة مرسومة مقصودة فتقول فى هذا الموطن (فاجتمعت الفرنج الى ملكها الأعظم قارله وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزى الباقى فى الاعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتو من مغربها استولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد يجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم. فقال لهم ما معناه: الرأى عندى ألا تعترضوهم فى خرجتهم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم فى اقبال أمرهم، ولهم نيات تغنى عن كثرة العدد، وقلوب تغنى عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا فى الرياسة ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر

أمر )) ( ١ ) ونستطيع أيضا أن نعلل تمهل كارل مارتل بقصده الى ترك خصمه ومنافسه أودو دون غوث حتى يقضى المسلمون على ملكه وسلطانه فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته.

وعلى أى حال فان عبد الرحمن كان قد اقتحم أكرتين وجنوب فرنسا كله، حينما تأهب كارك مارتل للسير الى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه وتمزيق قواته يطلب الغوث والنجدة من خصمه القديم أعنى كارل مارتل. وكان كارل قد حشد جيشا ضخما من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية. وسار زعيم الفرنجة فى هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب فى حمى الهضاب والربى حتى يفاجئ العدو فى مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده.

وكان الجيش الاسلامى قد اجتاح عندئذ جميع أراضى أكوتين التى تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو. وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية حيثما يلتقى بثلاثة من فروعه هى (الكريز) (والفيين) (والكلين)

ومن الصعب أن نعين بالتحقيق مكان ذلك اللقاء الحاسم فى تاريخ الشرق والغرب والاسلام والنصرانية. ولكن المتفق عليه انه هو السهل الواقع بين مدينتى بواتييه وتور حول نهرى (كلين) (وفيين) فرعى اللوار على مقربة من مدينة تور. والرواية الاسلامية مقلة موجزة فى الكلام عن تلك الموقعة العظيمة وليس فيها لدينا من المصادر العربية عنها أى تفصيل شامل. وانما وردت تفاصيل للرواية الاسلامية عن الموقعة نقلها الينا المؤرخ الأسبانى كوندى سنعود اليها بعد. وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس فى حوادث الموقعة وتقدم الينا عنها تفاصيل شائقة ولكن يحفها الريب

وتنقصها الدقة التاريخية. وقد رأينا أن نجمل وصف الموقعة أولا بما لدينا من أقوال الروايتين ثم نورد كلتيهما بعدئذ بتفاصيلها .

انتهى الجيش الاسلامى فى زحفه الى السهل الممتد بين مدينتى بواتييه وتور كما قدما، واستولى المسلمون على بواتييه ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة، ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى واستولوا عليها وخربوا كنيستها أيضا. وفى ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهى الى اللوار دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الاسلامية تقدير عدده وعدته. فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار لملاقاة العدو على ضفته اليمنى فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة. وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه فى الكثرة فارتد من ضفاف النهر ثانية الى السهل الواقع بين تور وبواتيه. وعبر كارل مارتل اللوار غرب تور وعسكر بجيشه الى يسار الجيش الاسلامى بأميال قليلة بين نهرى كلين وفيين

( يتبع )

اشترك في نشرتنا البريدية