الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 41الرجوع إلى "الرسالة"

٤ - شهر بالغردقة

Share

عند آبار البترول

في الشمال من محطة الأحياء المائية وراء الأفق جبل عال  تراه من المحطة إذا كان الجو صافيا ناتئا بالبحر ببروز كبير. كان  لهذا الجبل شأن كبير فى قديم الزمان عند القدماء: من مصريين  ورومان، فامتدت إليه همتهم وقصدوه من وادي النيل عبر الصحراء طلبا فى سائل أسود كثيف ذي رائحة شديدة ينضح من جدار الجبل  عند سطح الماء - هذا الجبل هو جبل الزيت، وهو سائل هو  زيت البترول، ولا يزال الجبل ينز بالزيت إلى يومنا هذا. وفي القرن  الماضي عثر على الزيت فى مغارات بالقرب من دمشة (جمسا)  جنوبي جبل الزيت بنحو عشرين كيلو مترا، فدل هذا على وجود  الزيت فى باطن الأرض بكميات كافية للاستغلال  التجاري، فتقدمت لاستنباطه شركة شل الإنجليزية، واستحوذت  من الحكومة المصرية على منطقة امتياز فى هذه البقعة، وبدأت العمل  فى مستهل هذا القرن، ثم حفرت أربعة وثلاثين بئرا مكثت تجود  بالزيت حتى سنة ١٩٢٧، ثم نضب معينها فهجرتها الشركة  وتحولت لغيرها.

ويظهر أن هذا النجاح حفز حكومتنا السنية للبحث عن البترول، فاختارت بقعة جنوبي دمشة بخمسين كيلو متر تعرف بأبى شعر، فأنشأت  فيها فى أوائل هذا القرن أيضا مرفأ حسنا، وجعلت حوله رصيفا  لإرساء السفن. مدت عليه سكة حديد ضيقة تربطه بالداخل لمسافة  طويلة، ثم أقامت بالقرب من الرصيف المخازن والمنازل لإيواء  الموظفين والعمال وجلبت إليهم الفناطيس والماكينات والسيارات  والأنابيب، وكلها من أجود أنواع الصلب المتين، ثم أخذت فى حفر  بئر وقبل أن تتمها بدأت فى حفر بئر ثانية على مسافة من الأول وقبل إكمالها توقفت عن العمل فصرفت العمال والموظفين وشونت  الماكينات والأدوات وتركت الأبراج قائمة على الآبار إلى اليوم،

وقد زرنا أبا شعرة عصر أحد الأيام وهو قريب من محطة  الأحياء المائية، فاستقبلنا بالقرب من المرفأ الخفير القائم بالحراسة  من قبل مصلحة المناجم، وقال هنا فى هذا المخزن عربات الترولى  وفى ذاك المخزن ست عربات لورى، وهناك الوابورات (ملقحة)  وعلى يمينكم بيت المدير والإدارة، وعلى يساركم منازل الموظفين  والعمال، وعلى رأس السكة فنطاس الزيت، وخلف التل البئر الأولى  وفى الوهدة أمامكم البئر الثانية. ثم تقدمنا فتبعناه فشاهدنا برجا  عظيما من الحديد قد أقيم فوق البئر ولا زالت الأحبال والعدد هناك  كما تركتها العمال منذ عشرين عاما ونيف .

وكنت أتخيل الحارس وهو يعدد محتويات أبو شعر  كأنه الترجمان فى منطقة سقارة أو الهرم وهو يرشد السائحين  إلى مقابر الفراعنة وآثار الغابرين. وكنت أسائل نفسي فى حيرة عن  السبب أو الحكمة التى أملت هذا التصرف الغريب وعن العقلية التي  أوحت بترك كل هذه الأدوات والعدد وثمنها لا يقل عن سبعين ألفا من الجنيهات كما قال الحارس ملقاة هكذا وسط الرمال طوال هذا  الزمن حتى كادت تبلى مادامت الحكومة قد قطعت الأمل من وجود البترول فى هذه المنطقة.

وفى عام ١٩١٤ استحوذت شركة شل (أيضا) على شقة طويلة  من ساحل البحر جنوبى أبوشعرة بعشرة كيلو مترات (فقط) فى  منطقة الغردقة، ثم حفرت فيها الآبار وأقامت عليها الأبراج وشيدت المعامل والمنازل وما إلى ذلك كما سيأتي وصفه.

وقد توجهنا لزيارة هذه الآبار عصر أحد الأيام رفقة صديقنا  الدكتور محمود أبو زيد مفتش مصلحة المناجم وهو مندوب الحكومة  لدى الشركة وله الأشراف على تنفيذ اشتراطات العقد بينها وبين  الحكومة، وقد استقبلنا عند وصولنا إلى الشركة وكيل المدير  وهو انجليزى، وبعد تبادلنا التحية أجاز لنا الزيارة، فتوجهنا إلى المعمل  الفني ثم إلى منطقة الآبار، ويدير المعمل عالمان لهما دراية خاصة  بالجيولوجيا الصناعية فيقدم لهما عينات من أنواع التربة  التي تخرج أثناء عملية حفر الآبار فيبحثانها بحثا مستفيضا من حيث  التكوين والعصر الجيولوجي التي تكونت أثناءه ونوع الحيوانات  التي كانت تعيش فيها وهكذا، ثم يعمل بذلك رسم تمثيلي لكل  بئر يدل على الترتيب الطبقي للقشرة الأرضية فى مكان البئر  ونسبة السمك لكل طبقة وغير ذلك من البيانات الدقيقة. ومن

هذا الرسم والشواهد الجيلوجية المحلية يكون فى مكنتهما أن يقدما  للشركة بيانات صحيحة لدرجة كبيرة من الأمور الآتية : ١ - صلاحية المنطقة من حيث وجود البترول ٢ - عمق الطبقات الخازنة له ٣ - نوع البترول ٤ - اتجاه البحث عند المشروع فى اختيار مكان حفر البئر التالية.

- ولهذا المعمل على صغره وسكون الحركة من حوله أهمية كبرى فى  نظر الشركة، وذلك لعظم النفقات التي يتكلفها حفر البئر الواحدة، فقيمة ذلك تتفاوت بين ستة آلاف وعشرة آلاف من الجنيهات. وللقارئ  أن يتصور فداحة الخسارة التي قد تصيب الشركة إذا سارت فى  حفر الآبار على غير هدى كأن تقوم بالحفر فى منطقة رحل عنها  البترول أو كانت الطبقة الخازنة له قليلة العمق ينضب معينه منها  بعد وقت وجيز.

وقد اتهزت فرصة وجودى بالمعمل وسألت أحد العالمين عن رأيه فى مسألة اصل زيت البترول ، وهي من المسائل العلمية التى لم تتقرر بعد بصفة قاطعة . فأجاب بأنه فى جانب النظرية التي تقول بان البترول ناتج عن انحلال مواد نباتية وحيوانية معا . خرجتامن المعمل قاصدين الآبار , وتقع منطقة الاستنباط الاساسية عند سفح تل من -حجر جيرى - المحطة نمرة ١-وفى هذه البقعة حفرت الشركة أولى بئر لها ، وقد قيل لنا أن خروج الزيت منها كان بكميات عظيمة مكثت مدة تتدفق ليل نهار على هيئة تافورة ، حتى أنها اغرقت من الارض حولها مساحة كبيرة - ثم توالى بعد ذلك حتى الابار شمالا وجنوبا حتى بلغ عددها التسعين - وفى السنوات الاخيرة قل الناتج اليومى منها قلة ظاهرة دعت الشركة الى الانتقال الى المحطة نمرة ٢ وهى تقع فى شقة جبلية قريبة من البحر على مسافة

كيلومترين تقريبا جهة الشرق من المحطة الاولى . وعدد ماحفر من الابار بها حتى وقت الزيارة سبع عشرة بئرا اكلها تجود بزيت غزير و عملية حفر الآبار من العمليات الهندسية الدقيقة , وقد شاهدنا بئرا فى دور الحفر فى المحطة الثانية قد اقيم عليها برج من الحديد لايقل ارتفاعه عن عشرين مترا تتدلي من قيمته احبال من الصلب معلقة فى بكرات , ووقف فى البرج حول البئر المهندس والعمال , وكانوا يدخلون في جوف الأرض انبوبة طويلة من الصلب، و مصدر الحركة فى البرج طارة كبيرة من الخشب تديرها ماكينة قوية وقودها الزيت الثقيل

وعلى خبرة المهندس وبراعته يتوقف نجاح حفر البئر , فمثقاب . نقيل صاعد هايط , وانايب ترسل فى جوف الارض الى عمق الفين وربما الى عمق ثلاثة آلاف من الاقدام الواحدة تلو الأخرى فى استقامة رأسية , وإشارات المهندس يتلوها أفعال واعمال باوضاع مختلفة مؤتلفة . والمثقاب دائب الحركة داخل الانابيب , وفتات الصخور والرمال ترتفع من باطن الارض إلى سطحها بطرق ميكانيكية , وبصيرة المهندس تلحظ ما هو جار فى الأعماق فتصلح اى انحراف قد يطرأ على اتجاه الانابيب أو تسد بالسمنت ما قد يحدث من الثغرات فى جدرانها حتى لايتدفق فيها ماء الرشح او يتسرب منها الرمل فتفسد البئر ، ويستمر العمل جاريا هكذا مدة ثلاثة شهور أو أربعة وأحيانا عشرة حتى يصل المثقاب إلى طبقة البترول ، وهنا يسير العمل بحذر شديد وبعناية كبيرة , وتتجلى فى هذا الدور ألمعية المهندس فى توقيه ماقد يحدث أحيانا من انباق الزيت وهو تحت ضغط هائل من الاعماق السحيقة الى وجه الارض بشدة عظيمة تخرب البئر وتقذف الانابيب والادوات فى الهواء الى علو كبير ، وتغرق الارض بكميات كبيرة من الزيت يذهب معظمه هباء .

اشترك في نشرتنا البريدية