"لما علم الفرنج وسكان بلاد الحدود الاسبانية بمقتل عثمان بن أبى نسعة وسمعوا بضخامة الجيش الاسلامى الذى سير اليهم، استعدوا للدفاع جهدهم وكتبوا الى جيرانهم يلتمسون الغوث. وجمع الكونت سيد هذه الانحاء (يريد أودو) قواته وسار للقاء العرب ووقعت بينهما معارك سجال. ولكن النصر كان الى جانب عبد الرحمن بوجه عام فاستولى تباعا على كل مدن الكونت. وكان جنده قد نفخ فيهم حسن طالعهم المستمر فلم يكونوا يرغبون الا فى خوض المعارك واثقين كل الثقة فى شجاعة قائدهم وبراعته
"وعبر المسلمون نهر الجارون وأحرقوا كل المدن الواقعة على ضفافه وخربوا جميع الضياع وسبوا جموعا لا تحصى؛ وانقض هذا الجيش على البلاد كالعاصفة المخربة فاجتاحها، واذكى اضطرام الجند نجاح غزواتهم واستمرار ظفرهم وما أصابوا من الغنائم.
"ولما عبر عبد الرحمن نهر الجارون اعترضه أمير هذه الانحاء ولكنه هزمه ففر أمامه وامتنع بمدينته. فحاصرها المسلمون ولم يلبثوا أن اقتحموها وسحقوا بسيوفهم الماحقة كل شىء. ومات الكونت مدافعا عن مدينته واحتز الغزاة رأسه (1). ثم ساروا مثقلين بالغنائم فى طلب انتصارات أخرى، وارتجت بلاد الفرنج كلها رعبا لاقتراب جموع المسلمين، وهرع الفرنج الى ملكهم قلدوس فى طلب الغوث، وأخبروه بما يأتيه الفرسان المسلمون من العيث والسفك وكأنهم فى كل مكان، وكيف أنهم احتلوا واجتاحوا كل أقاليم أربونة وتولوشة وبردال (2) وقتلوا الكونت. فهدأ الملك روعهم ووعدهم بالغوث العاجل. وفى سنة 114 سار على رأس جموع لا تحصى للقاء المسلمين. وكان المسلمون قد اقتربوا عندئذ من مدينة تور، وهناك علم عبد الرحمن بأمر الجيش العظيم الذى سيلقى. وكان جيشه قد دب اليه الخلل لانه كان مثقلا بالغنائم من كل صوب. ورأى عبد الرحمن واولو الحزم من زملائه أن يحملوا الجند على ترك هذه الأثقال والاقتصار على أسلحتهم وخيولهم ولكنهم خشوا
التمرد أو أن يثبطوا عزائم الجند واستسلموا لرأى الواثقين المستهترين. واعتمد عبد الرحمن على شجاعة جنده وحسن طالعه المستمر. ولكن الاضطراب خطر خالد على سلامة الجيوش. صحيح أن الجند يحملهم ظمأ الغنم أن يأتوا جهودا لم يسمع بها فطوقوا مدينة تور وقاتلوا حصونها بشدة رائعة حتى سقطت فى أيديهم أمام أعين الجيش القادم لانقاذها وانقض المسلمون على أهلها كالضوارى المفترسة وأمعنوا القتل فيهم. قالوا ولعل الله أراد أن يعاقب المسلمين على تلك الآثام، وكان طالعهم قد ولى".
"وعلى ضفاف نهر "الأوار" (اللوار) اصطف رجال اللغتين والتقي المسلمون والنصارى وكلاهما جزع من الاخر، وكان عبد الرحمن ثقة منه بظفره المستمر هو البادئ بالهجوم فانقض بفرسانه على الفرنج بشدة وقابله الفرنج بالمثل. ودامت المعركة ذريعة مروعة طوال اليوم حتى جن الليل وفرق بين الجيشين. وفى اليوم التالى استؤنف القتال منذ الفجر بشدة، وشق بعض مقدمى المسلمين طريقهم الى صفوف العدو وتوغلوا فيها. ولكن عبد الرحمن لاحظ والمعركة فى أوج اضطرامها أن جماعة كبيرة من فرسانه غادرت الميدان بسرعة لحماية الغنائم المكدسة فى المعسكر العربى، لان العدو أخذ يهددها. فأحدثت هذه الحركة خللا فى صفوف المسلمين، وخشى عبد الرحمن عاقبة هذا الاضطراب فاخذ يثب من صف الى صف يحث جنوده على القتال، ولكنه ما لبث أن أدرك أنه يستحيل عليه ضبطهم فارتد يحارب مع أشجع جنده حيثما استقرت المعركة، حتى سقط قتيلا مع جواده وقد اثخن طعانا. وهنا ساد الخلل فى الجيش الاسلامى وارتد المسلمون فى كل ناحية ولم يعاونهم على الانسحاب من تلك المعركة الهائلة سوى دخول الليل"
"واستفاد النصارى من هذا الظرف فطاردوا الجنود المنهزمة أياما عديدة، واضطر المسلمون أثناء انسحابهم أن يحتملوا عدة هجمات واستمر الصراع بين مناظر مروعة حتى اربونة".
"وقد وقعت هذه الهزيمة الفادحة بالمسلمين وقتل قائدهم الشهير عبد الرحمن سنة 115 هـ، ثم إن ملك فرنسا حاصر مدينة أربونة. ولكن المسلمين دافعوا بشجاعة متناهية حتى أرغم على رفع الحصار وارتد داخل بلاده وقد أصابته خسائر كبيرة"(١)
وأورد المؤرخ كاردون من جهة أخرى فى كلامه عن الموقعة فقرة، ذكر أنه نقلها عن ابن خلكان جاء فيها: "لما استولى العرب على قرقشونة خشي قار له (كارل) أن يتوغلوا فى الفتح فسار لقتالهم فى الارض الكبيرة (فرنسا) فى جيش ضخم وعلم العرب
بقدومه وهم فى لوذون (ليون) وأن جيشه يفوقهم بكثرة، فعولوا على الارتداد. وسار قارله حتى سهل أنيسون دون أن يلقى أحدا. اذ احتجب العرب وراء الجبال امتنعوا بها، فطوق هذه الجبال دون أن يدرى العرب ثم قاتلهم حتى هلك عدد عظيم منهم وفر الباقون الى أربونة. فحاصر قارله أربونة مدة ولم يستطع فتحها فارتد الى أراضيه وأنشأ قلعة وادى رذونه (الرون) ووضع فيها حامية قوية لتكون حدا بينه وبين العرب". (١)
ونعود بعد ذلك الى الرواية الاسلامية فنقول ان المؤرخين المسلمين يمرون على حوادث هذه الموقعة الشهيرة اما بالصمت أو الاشارة الموجزة. ويجب أن نعلم بادئ بدء أن موقعة تور تعرف فى التاريخ الاسلامى بواقعة البلاط أو بلاط الشهداء لكثرة من استشهد فيها
من أكابر المسلمين والتابعين. وفى هذه التسمية ذاتها، وفى تحفظ الرواية الاسلامية، وفى لهجة العبارات القليلة التى ذكرت بها الموقعة، ما يدل على أن المؤرخين المسلمين يقدرون خطورة هذا اللقاء الحاسم بين الاسلام والنصرانية، ويقدرون فداحة الخطب الذى نزل بالاسلام فى سهول تور. ويدل على لون الموقعة الدينى ما تردده الاسطورة الأسلامية من أن الاذان لبث عصورا طويلة يسمع فى بلاط الشهداء(٢) ونستطيع أن نحمل تحفظ المؤرخين
المسلمين فى هذا المقام على أنهم لم يروا أن يبسطوا القول فى مصاب جلل نزل بالاسلام ولا أن يفيضوا فى تفاصيله المؤلمة، فاكتفوا بالأشارة الموجزة اليه، ولم يكن ثمة مجال للتعليق أيضا، ولا التحدث عن نتائج خطب لا ريب أنه كان ضربة للاسلام ولمطامع الخلافة ومشاريعها. واذا استثنينا بعض الروايات الاندلسية التى كتبت عن الموقعة فى عصر متأخر، والتى نقلناها فيما تقدم فان المؤرخين المسلمين يتفقون جميعا فى هذا الصمت والتحفظ. وهذه طائفة من أقوالهم واشاراتهم الموجزة:
قال ابن عبد الحكم وهو من أقدم رواة الفتوح الاسلامية واقرب من كتب عن فتوح الاندلس ما يأتى: -
(يتبع)
