في مثل هذا اليوم منذ ألف سنة خلت، فقدت آلهة الشعر والبيان رسولها الأمين ونبيها العظيم أبا الطيب أحمد المتنبي، بعد إذ أدى رسالتها ونشر دعوتها أربعين عاماً لا تأخذه كلالة ولا تتكاءده ملالة، وأنبياء البيان كأنبياء الأديان شديد عنتهم كثير اضطهادهم صعبة دعوتهم، وهممع ناكري رسالتهم في بلاء وجهد ما أنزلت عليهم إلهة الشعر رائع آياتها وخالد أبياتها، وما بي عرض رسالة المتنبي وما كان يلقى بسببها من كفر العبقرية وجحود الفضل ونكران العظمة، فكل أحس ذلك في شعر شوقي ورسالته، إن ما أخذت نفسي به هو ذكر أبى الطيب الفيلسوف المهذب، (كورني) العرب في القرن الرابع؛ وأنا إذ أقول هذا لا أقصد إلى قول الفيلسوف الشاعر أبى العلاء المعري: (إنما أبو تمام وأبو الطيب حكيمان والشاعر البحتري) بل أعني ناحية خطيرة في شعر المتنبي هي وحدها سر خلوده وعظمته وبقاء شعره على الزمن.
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ...
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مردداً ... وغنى به من لا يغنى مفردا
ولكن هذا يقتضيني ذكر القرن الرابع الهجري، وقد تهاوى بناء الدولة العباسية، ورث حبل العروبة، وفشت فاشيةُ ملوك الطوائف في البلاد العربية الاسلامية؛ فآل بويه وبنو حمدان في العراق وفارس والشام، ودولة الأخشيديين وبنو رائق في مصر وفلسطين يتواثب بعض على بعض، وإن للفساد والرذيلة لسوقاً رائجة، وان للخيانة والنفاق لبضاعة نافقة؛ أما عن الأخلاق الواهية والعزائم الوانية والمروءات الساقطة فحدث ولا إثم.
فدهري ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
أرنب غير أنهم ملوك ... مفتحة عيونهم نيام
ذلكم القرن الرابع الذي ولد فيه فجر الشعراء أبو الطيب المتنبي قد عرضته عليك بعجره وبجره وخيره وشره. لأن للعصر أثراً بيناً فيما ينظم الشاعر ويكتب الأديب، وهو عصر ما أخلقه بشاعر كالمتنبي ينشر بين أهله الضعفاء فرقان القوة ورسالة المجد والمثل الأعلى.
وكما ابتعث (جوبيتير) آله الحرب والقوة نيتشه فيلسوفا يوقظ بإنجيله همم الألمان الراقدة وعزائمهم الهامدة ويلقنهم آيات تنازع البقاء وبقاء القوي الغالب، ابتعث المتنبي قبله بثمانية عصور إلى الأمم الإسلامية يقول:
فالموت أعر لي والصبر أجمل بي ... والبرُّ أوسع والدنيا لمن غلبا
تطاول العهد بالجاهلية الأولى، فنسى الشعراء نغمة التفاخر بالعديد، والتكاثر بالوليد، والاعتداد بالقوة، والاعتزاز بالمنعة، والتفاضل بمنع الجار وحفظ العشيرة، فأصبحوا وقد رقت حاشيةالحياة، ولانت أعطاف العيش، تشوقهم اللذة، ويروقهم الترف، ويستعبدهم الهوى، وتتصباهم الطريقة النواسية، فما منهم إلا عاشق مفتون، وقيس بليلاه مجنون، وما فيهم إلا نضو ردف ثقيل، وخصر نحيل، وطرف سقيم، وثغر نظيم؛ ومن لا يحب الخصور والنحور واللواحظ والثغور إذا كن مما يشتهي ويستملح!.
طغى سيل الأدب اللين بنوعيه الشعر والنثر على الحياة الإسلامية العربية في القرن الثالث والرابع حتى ماعت الأخلاق الصلبة البدوية، وذابت الرجولة القاسية الجاهلية، وتفككت الفضائل من رابطتها الوثيقة، وتحللت الأخلاق من أزمتها المتينة، وسرى داء الضعف والتخنث في نفوس الشيوخ والشبان بله الكواعب والغلمان. فكان من ذلك جيل مترف متنعم، مسخت الحضارة رجولته، وألان الترف شكيمته، وأماتت النعمة طموحه. فما تتراقى إلى مجد له همةٌ، ولا تتسامى إلى مثل أعلى له عزمةٌ، وما جنى على هذا الجيل ما جنى إلا شعراؤه الخليعون الماجنون وفي طليعتهم بشار وأبو نواس. فان من يقول:
ولو أن مالي يستقل بلذتي ...
لأنسيت أهل اللهو كسرى وقيصرا
لا يبشر إلا بجيل خائر ضعيف كهذا الجيل الذي ولد فيه المتنبي. وما لنا لا نقول في صراحة وصدق، إن الأدب القوي في غير عنف، الشديد في غير عسف، ظل يتيماً بعد الفرزدق وجرير حتى جاء أبو الطيب فرأب الصدع، وسدَّ الثأى وحمل الراية؛ ثم فتح للشعراء طرائق الخلد، وسنَّ لهم سنن المجد؟
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الرجال وأن تُرى ... لك الهبواتُ السود والعسكر المجرُ وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تدوال سمع المرء أنمله العشر أنا لا أريد لهذا النشء المتفكك من شبابنا (الشيك) أن يقحم نفسه الحرب، ويحملها الطعن والضرب، كي ينشأ شجاع النفس شديد البطش منيع الجانب عظيم الرجولة، ولكني أنصحه بقراءة ديوان المتنبي شاعر القوة والبطش والرجولة الحق، وأنا زعيم له بعد ذلك بما يتطلبه من رجولة وإقدام. ولو أن الحياة تبقى لحر ... لعددنا أضلنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا أما أنتم أيها الذين أضلهم المجد وقعدت بهم الهمة عن
طلب العلا، فأستوطأوا مهاد الضعة، وأساغوا صاب الذل، ورضوا بخطة الخسف، فإليكم أتوجه ببيتي شاعر المجد والعظمة إذا غامرت في شرق مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
وبعد: فأن في ديوان المتنبي جبهة حربية تعلم شبابنا الشجاعة والقتال، ومدرسة أسبارطية تنشئ أطفالنا على احتمال الشدائد والأهوال، وجماعة فلسفية توحي إلى رجالنا جلائل الأعمال. فلنمجد شاعر الأدب القوي الذي يدعو إليه نيتشه في عصره، والأستاذ أحمد أمين في عصرنا، والذي توجبه حالنا الاجتماعية والخلقية، وتفرضه سنة البقاء على الناس. وليحْن قراء (الرسالة) معي رؤوسهم خشوعاً وإجلالاً لنبي الشعر، وفارس الدهر، وملء أذن العمر، وعبقري لو تقدم به الزمن في عهده الإغريق لخلده هومير مع الأبطال وسما به إلى سماء الآلهة! ولا عجب. وأبو الطيب القائل عن نفسه: وقت يضيع وعمر ليت مدته ... في غير أمته من سالف الأمم أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم. (حلب)
