من هو (المريد) في اصطلاح المتصوفين؟ هو - إن لم أكن نسيت ذلك الذي يفنى في شيخه ويجعل حياته كلها طاعة وتجردا وعبادة. يأمر الشيخ فيطيع (المريد) وشيخ المريد هو قلبه الخافق، وهو عينه الباصرة، وهو وعيه، وهو إرادته. الدنيا بما حوت هي الشيخ في عين المريد، والطريق إلى الجنة في الآخرة هو الشيخ. . . هذا هو (المريد) وهذا هو شيخه.
فمن هو شيخ (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف؟ العلم والأدب والتاريخ، هذه الأقانيم الثلاثة شيخ واحد!! له المجد، وله العلى، وفي سبيل طاعة هذا الشيخ يفنى (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، وإذا قلت: يفنى، فإنني أعنى مدلول هذه الكلمة في غير كناية أو مجاز. . . لأن صاحبنا يفنى حقاً في سبيل شيخه المثلث الرحمات!!
لقيته - أول ما لقيته - في ندوة دار الكاتب المصرية، منذ خمسة عشر عاماً. وكان طالباً يحصل العلم نهاراً، ويعمل في الصحافة ليلاً، لقيته في أولى مدارج شبابه، ناحل الجسم، فلوى العود، مضعضع البنيان، تراه فكأنك ترى شيخاً أوقرت ظهره السنون، ويتحدث الرفاق في ندوة الدار شتى الأحاديث، ويتشعب القول في شئون الحياة وفى أحداث السياسة، وصاحبنا
صامت لا يتكلم، ويدور الحديث على كل لسان، وحديث صاحبنا الذهول والاطراق!
فإذا عرج المتحدثون على العلم أو الأدب أو التاريخ، أفاق الذاهل المطرق، الوجه الأسمر العابس، وتهللت أساريره ومضى صاحبنا يفيض بما يشاء الله أن يفيض، فما شئت من علم وأدب وتحقيق، وما شئت من نقد وتمحيص، وكأن هذا الجسم الناحل الذاوي قد أصبح كله (شحنة) من الكهرباء تشع بالحيوية والنور والعرفان. . . وتبارك الله أقدر الخالقين.
منذ ذلك الحين تمكنت بيني وبينه أسباب المعرفة، فلم تزدني الأيام إلا إيماناً بغزارة علمه ورفيع أدبه وكريم خلقه. ومنذ ذلك الحين سلكته في عداد (المريدين) في دولة العلم والأدب والتاريخ، ومضى هو قارئاً ومحققاً ومؤلفاً، يضنيه البحث، وتنهكه القراءة، وتلح عليه، فيتداوى بالتي كانت هي الداء. الكتب أكداس على سريره، وعلى المناضد، وفوق الأرفف، وتحت المقاعد، وعلى مائدة الطعام.
ويشفق عليه خاله الكريم، فمضى به إلى الطبيب، يتجسسه ويتعرف داءه، وفى كل مرة لا يسمع المريض ولا الخال سوى كلمات مكررة معادة: الكبت الجنسي والإجهاد وشدة الحاجة إلى الانطلاق من الكتب، والراحة والرياضة. . . وهذه الأمور كلها في نظر (المريد) بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فالأقانيم الثلاثة شيخ واحد. . . له المجد، وله العلي، وفي سبيله يمرض ويصح، وله الأمر في شأن هذا (المريد) من قبل ومن بعد.
. . حتى إنتاجه الأدبي في الصحافة فهو قراءة كتب ثم تلخيص ونقد وتحقيق وتمحيص. وحتى كتبه التي يؤلفها، فهي رحلات وأسفار شاقة مضنية في صحارى الكتب وشعاب المراجع، يقرأ مائة كتاب ليحقق منها موضوعاً عن (أبي زيد الهلالي) يقع في سلسلة كتب (اقرأ) ويعكف على دراسة (الجاحظ) فيعد في تاريخه (كتاب الجاحظ الضحكوك) ثم يدعه قبل تقديمه للطبع، ليعكف على تاريخ (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) فيخرج للناس في هذا الموضوع كتاباً جليل الشأن قيم الأثر، هو الآن بين أيدي القراء ينعمون فيه بما أنعم، ويجنون من شهى ثماره ما أجني.
إنه في هذا الكتاب، وفى غيره من الكتب التي أعدها، والتي يعدها، هو هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، يغوص إلى القاع، فيظفر بأنفس النفائس، ويحلق في الأجواء، فلا يهبط إلا بما يشع على موضوعاته نور العلم والمعرفة.
إنه يعيش في الكتاب وللكتاب، ولاشيء غير الكتاب، حتى لأرجح أنه لم يسمع إلى اليوم (الأوبرج) ولا يدري أين موقع (الكيت كات) ولا أستبعد أن يكون (الأوبرج) في نظره وفي مبلغ علمه نوعاً من أنواع الأطعمة الإفرنجية يقدم على موائد الموسرين، وأن يكون (الكيت كات) كلمة محرفة عن شواء الكتكوت.!! فإذا قلت له: إن الأول ملهى من ملاهي العاصمة التي تزخر بالمتعة والهوى والشباب، وأن الثاني هو الآخر مطرح من مطارح اللهو على ضفاف النيل، لاذ بالصمت والذهول والإطراق، كأن هذا الأمر لا يعنيه، وكأن حديث دنيا غير دنياه.
وإني لأشفق على هذا الصديق مما هو فيه، ولا أدري متى يعرف لنفسه حقها من المتعة والراحة والنعيم؛ إنه ماض في طريقته الوعرة الشاقة، سادر في (تجرده) من حياة الشباب. إنه يحترق في ميعة الصبا، لا يرحم نفسه، ولا يشفق عليها. وأغلب الظن أنه يجد الراحة في هذا الشقاء، ويستروح نسمة النعيم من هذا العناء.
وأقسم لو كان أمر هذا الصديق في يدي؛ لأقمت عليه (مروضا) كالذي يقيمه الموسرين على جيادهم الأصيلة، ليقدم له الطعام في موعد، ويشرف على تضميره ورياضته بالقدر المناسب لجسمه وصحته؛ ليدخر بذلك من قوته ما يضمن له الفوز دائماً في حلبة السباق.
فإذا لم أستطع هذا طالبت بسن قانون (للحجر) عليه وعلى أمثاله المبذرين الذين ينفقون من قواهم فيعرضونها للاضمحلال والفناء. . أيكون المبذر في ماله عرضة للحجر عليه، ولا يكون المبذر في قواه وصحته وكيانه عرضة للحجر عليه؟ ويكون خاله الكريم من أبرز رجال القانون، ولا يفكر في مثل ما أفكر فيه
ذلكم هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف مؤلف كتاب (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) جليته للقراءة ممن لا يعرفونه معرفتي به. أما الكتاب فهو بين أيديهم، كما أسلفت ينعمون منه بما أنعم، ويجنون من شهي ثماره ما أجني.

