الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 796الرجوع إلى "الرسالة"

، في قافلة الزمان

Share

 .

 ولكن الكتاب الذي نتحدث عنه الآن يسلك سبيلاً آخر  لنقد المجتمع وعاداته هو سبيل الرواية. فكتاب   (في قافلة  الزمان)  إذن رواية طويلة انتزعت شخصياتها من صميم المجتمع  المصري. ولكي يدرك القارئ ما بذل المؤلف من مجهود في  تصوير عادات عدة أجيال من أمته ينبغي أن يعلم أنه بدأ الرواية  في بداية القرن العشرين وأنتهى بها في أواخر سنيه الحالية. أي  أن الرواية سجل لحياة مجتمع في نصف قرن. ولم يكن هذا  السجل لحسن الحظ مشوشاً مرتبكاً ناقص المعلومات، بل كان  مرتباً منظماً يلم بالشاردة والواربدة، قد دونته يد كاتب ماهر  رمى إلى تقديمه بين يدي كل من يتوق إلى معرفة مجتمعه في فترة  لم يكتب له فيها الوجود، وبذلك يوفر عليه الإطلاع وإن لم يوفر  له الوجود!.

 فنجاح المؤلف من هذه الجهة لا ريب فيه. إذ أنه وفق كل  التوفيق في نقل عادات الناس، ورسمهما بدقة وأمانة وإخلاص.

أما أهيكل الرواية ففيه طرافة وتجديد. ونستطيع أن  نلخصه في عبارة قصيرة؛ إنه عبارة عن تاريخ حياة  أسرة وأحفادها. فقد بدأت الرواية في التحدث عن الحاج  أسعد وهو أبو الأسرة الأكبر ومن حوله أبناؤه الأربعة

ولكل منهم زوجة وأطفال. ويظل هؤلاء جميعاً سقف واحد  في البيت الكبير الذي يمتلكه الحاج أسعد. ثم نستطرد الرواية  في استعراض حياة هذه الاسرة التي تتفرع وتتشعب وتتشابك  شؤونها وتتعقد مشاكلها بأزدياد أفرادها وأتصال أعمالهم بأعمال  الناس، وبما يواجههم ما يواجه الإنسان في خضم الحياة من  مشاغل تستولى على عمره. فهنا بيع وهناك شراء، وهنا زواج  وهناك طلاق، وهنا مرض وهناك موت، والى أخر ما يتعلق  بالحياة من أمور. على الرغم من أن السيطرة على دفة رواية تعالج  نفسيات الناس وعاداتهم وتبسطها على خير الوجوه من الصعوبة  بمكان، فإن الأستاذ السحار أمسك بالدفة شأن الربان الماهر،  وعالج حياة هذه الأسرة وما تفرعت منها من أسر بدقة وإتقان.  حتى أن القارئ ليخرج من الرواية وهو على أتم ثقة أن المؤلف  لم يفتعل حادثة من الحوادث ليصور إحدى العادات، وأن الرواية  سارت في مجراها الطبيعي دون أن تتعثر بما في طريقها من صخور.

ومع أن الرواية ليست من ذلك النوع الذي يعنى المؤلف  برسم مشكلة لها هي العقدة؛ تتشابك الحوادث حولها وتتكاثر  الشخوص، ومع أنها ايضاً لا تشتمل على حوادث غريبة مشوقة  وإنما هي قطعة من الحياة مليئة بما يقع للمرء وما يشاهده في مجتمعه  من الحوادث والعادات على مدار الأيام فإنها مع ذلك تجري في  أسلوب لين شيق يأخذ بانتباه القارئ فيستغرق في تلاوتها بلذة  وإعجاب. وهذا ولا شك هو المقصود بنجاح الروائي وبراعته.

بيد أن كثرة شخصيات الرواية لم يفسح للمؤلف مجالا كي  يرسمها جميعاً بالدقة المطلوبة - كما رسم شخصية مصطفى ونفيسة  مثلا - فجاءت صور قسم منها باهتة لا تتسم بميزات وملامح  واضحة برغم أهميتها. ومن ذلك القسم جاءت شخصيات سليم  وأسعد وماري. ولعل  ذلك يبدو بصورة اوضح لو قارنا - عي  المؤلف في تحليل شخصية مصطفى بنجاحه  في تحليل شخصية سليم. مع العلم أن الشخصيتين تتكافأن

 في الأهمية والدور. حقاً إن الفرق يبدو شاسعاً بين النجاحين.  والواقع أن براعة المؤلف كما يتضح لي متجهة إلى غرضين يمكن  القول أنهما شغلاه نوعاً عن الأغراض الأخرى: الأول والأهم  هو تصوير حالة المجتمع المصري في نصف القرن الأخير وتسجيل  عاداته وتقاليده. وقد سبق لي أن ذكرت أن المؤلف توفق في  هذا كل التوفيق. فأستطاع أن يكون صورة في أذهاننا عن ا لزواج - مثلا - في جميع مراحله: كيف تتم الخطبة، ويعد    (الجهاز)  ويقدم           (النيشان)      ثم تقام الزفة التي يعقبها بناء  الخطيب بخطيبته.

ولكي أكون لدى القارئ فكرة عن دقة المؤلف في تصوير  هذه العادات أورد الآن مقطعاً يتعلق بأحد مراحل الزواج الذي  يسمى           (النيشان)     . فقد جاء في صفحة   (٢٠٥)  من الكتاب  ما يلي: -

 (وخرجت أمينة وعصمت وسكينة لشراء           (النيشان)       وهو هدايا يقدمها الخطيب قبل الزفاف، ويتكون            (النيشان)      عادة من حذاء فضي، وقماش من القصب العنابي،  وقفاز أبيض، ومروحة كبيرة من ريش أبيض فاخر، وطرحة  بيضاء، وحافظة بيضاء وجورب أبيض من الحرير الغالي، ويطلق  على هذه الأشياء (الطقم الأبيض، وهو ما ترتديه العروس ليلة  الزفاف. ويحتوي           (النيشان)      كذلك على شباشب حمراء  وصفراء وخضراء وجوارب ومناديل وروائح وصابون ممسك،  وصندوق تواليت فاخر، وأقمشة متعددة وثياب داخلية).

هذا عن الزواج، وما يقال عن الزواج، يقال عن كيفية  علاج الناس للمرض والعقم واستغنائهم عن الأطباء بأولياء الله  من أمثال سيدي البيدق، وأولاد عنان، وسيدي الشعراوي،  والسيدة نفيسة، والمندورة. وهم شأن الأطباء، لكل منهم  اختصاصه: فسيدي البيدق يشفى من الصداع ويزوره المرضى بعد  صلاة العصر، وأولاد عنان يشفون المرضى المهازيل، وسيدي  الشعراوي يشفى مرضى النفس والحسد، ولا بد من زيارة ضريحة  مريدة في اليوم في الفجر وعند الغروب، أما السيدة نفيسة  فيزورها مرضى العيون ولم يحدد لزيارتها وقتما، والمندورة تشفي  النساء من العقم.

 هذه العادات، إلى غيرها من نظم المجتمع وما يتصل به،  حظيت من المؤلف بأكبر قسط من الأهتمام. ولذلك جاءت صادقة  دقيقة تنساب في سلالة وبساطة محببة. وبذلك حقق المؤلف  هدفه الأول.

أما الهدف الثاني فهو على ما أعتقد دراسة شخصية مصطفى،  التي تمثل شخصية المؤلف. وقد نجح الكاتب في هذا الغرض  ايضاً، حتى أن القارئ يظن أنه عرف مصطفى هذا قبل أن يقرأ  عنه في الروانة، وهو قد عرفه في الحق؛ ولكنه عرفه في خضم  الحياة المليئة بأشخاص من طراز مصطفى. وقد أبدع المؤلف  خاصة في تحليل حب مصطفى وعواطفه، وعندي أنه إن لم يكن قد  بلغ القمة فيه فقد قاربها.

وهناك بعض المؤاخذات على المؤلف أهمها كثرة أبطال  روايته. صحيح أن مجال الرواية واسع، وأنها تشمل الحياة  بكليتها، ولكن هذا لا يعني أن نعالج نفوس الناس بأجمعهم،  بل علينا أن ننتقي منها ما يمثل منها مجموعة بعينها. وحيث أن  المؤلف عالج في روايته أسرة معينة تفرعت منها أسر أخرى، فإنه  تعرض لجميع أفراد هذه الأسر.

ولكنني لا أتفق معه على طريقته هذه، وأقل ما يقال عنها  أنها توقع القارئ في الارتباك فلا يستطيع معرفة الشخصيات  معرفة دقيقة وهي على تلك الكثرة. وبالإضافة إلى ما قد ينجم  عنها من أرتباك، فأنها دفعت المؤلف إلى تسجيل بعض الحوادث  التافهة التي لا تستحق أن يفرد لها مكان في رواية جيدة كروايته.  وابسط مثال على ذلك شخصيات أصدقاء سليم وأسعد التي لم يكن  لها لزوم في الرواية إطلاقاً، والتي تشعر القارئ دوماً أنها كل  على الرواية، قد أقحمت فيها إقحاماً، ومهما حاول القارئ أن  يتعرف على لون لها أصطدم بالحقيقة الواضحة وهي أنها عديمة اللون  والطعم والرائحة!.

وقد كاد المؤلف من الجهة الأخرى أن يشرك عنصر الفساد  في الرواية، لا لذنب جنتة إلا لكونها قد طالت. والظاهر أن  ذلك الطول قد أقلق المؤلف، لأنه عمد إلى استغلال قانون  السرعة استغلالا مضراً بمصلحة الرواية كل الضرر. ولعل  القارئ يستطيع أن يلاحظ ذلك منذ بداية الصفحة الثلاثمائة.

إذ أتجه المؤلف إلى رواية الحوادث بأسلوب بسيط ساذج لا تميزه  إلا السرعة، وليس له أية علاقة بأسلوب الروائي الفنان، ثم  ما تكاد تأتي النهاية حتى يصطدم القارئ بحقيقة أخرى، تتمثل  بيتر الرواية. صحيح أن نهايتها موفقة، ولكن القارئ يشعر  شعوراً أكيداً أن المؤلف لم يقل كل ما عنده، وأن عليه  الأستمرار فيها لأنها لم تنته بعد.

        وفيما عدا ذلك فإن الرواية على نصيب موفور من الروعة في  فنها وأسلوبها وأغراضها.

(القاهرة)

اشترك في نشرتنا البريدية