الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 745الرجوع إلى "الرسالة"

، مكتبة دنفر

Share

من محاسن المصادفات أنه في الوقت الذي كتب فيه الأستاذ    (العباس)  كلمته اللاذعة عن بعض عيوب دار الكتب المصرية

   (عدد٧٤٣)  وافانا البريد الأمريكي - ضمن رسائله - بتقرير  هام بالنسبة لنا عن مكتبة بلدة أمريكية صغيرة تدعى (دنفر  ووجه الأهمية في هذا التقرير أنه يوضح لنا بجلاء  كيف أمكن لبلدة صغيرة كهذه أن تؤسس لها مكتبة ناجحة  ومن ثم يساعدنا على استنتاج أن علة جمود دارنا ونشاط دور  الكتب الأمريكية مثلا ليست - كما يعتقد الكثيرون -  راجعة إلى الفرق الواضح بين مصر وأمريكا من حيث عدد  السكان أو الثورة العامة أو ما شابه ذلك بقدر ما هي راجعة إلى  الفرق بين نظام ونظام وبين اتجاه واتجاه.

ذلك لأن مهمة دور الكتب عندهم بصفة إجمالية ليست مجرد    (إعارة الكتب)  لمن يستطيع أن يستعيرها كما هو حادث لدينا  بل تيسير الثقافة بصفة شاملة تيسيراً جدياً ومجدياً للمواطنين جميعاً  كباراً وصغاراً على اختلاف ظروفهم وأمزجتهم وحالاتهم المادية  والثقافية. بمعنى أن دارنا تعرض كتباً لا يستفيد منها غير الأدباء  غالباً بينما دورهم تعرض مراجع من كل لون وفن بحيث يمكن أن  يستفيد منها الزارع والموظف والتاجر والتلميذ والكاتب والشاعر  والفيلسوف وذو الثقافة المحدودة والمليونير والفقير والرجل والمرأة  إلخ. وبمعنى أن دارنا تترك كل فرد لنفسه يتخبط - إن  استطاع - في طريقة البحث بينما دورهم تتعاون معهم تعاوناً  وثيقاً فتهيئ لهم طرق التحصيل المثمر كما تنظم مناظرات في كل  أنواع   (المعرفة)  ومحاضرات مشوقة للأطفال وأحاديث مناسبة  للسيدات وتصدر نشرات سنوية وأحياناً نصف سنوية عن  جهُودها ونظمها وتطوراتها وما يوجه إليها من نقد وما تتوخى  إضلاحه. . الخ.

ولعل هذا كله راجع إلى سبب أصيل هو شغفهم - دوننا  مع الأسف الشديد - بتثقيف أنفسهم في شتى مرافق الحياة  بدليل لا يقبل الجدل وهو أن دورهم لا تعتمد على الحكومة كدارنا  بل على المواطنين أنفسهم فهم الذين يتولون وحدهم شؤونها من  إنفاق أو إدارة أوإشراف. والنتيجة المنطقية التي لا مناص منها  أن نشاطنا الثقافي يخضع حتما للإجراءات الحكومية بقدر  ما تسمح به   (الميزانية)  و   (اللوائح)  حتى لقد أصبح من  الأمور العادية التي نسمعها بغير دهشة أن كتاباً   (كالأغاني)   مثلا لا تزال بقية من أجزائه   (تحت الطبع)  بالدار منذ سنوات

طويلة. . وكتاباً مثل   (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)   لا يزال دون طبع إطلاقاً فيما عدا جزءاً واحداً منه. . . وكم من  كتب قيمة لم تطبع بعد أو لم تجلد بعد أو لم تصحح بعد وهكذا!.

يمكن أن يقال إذن أن معظم الفرق بيننا وبينهم بهذا الصدد  لا يمت إلى اختلاف عدد السكان أو الثروة العامة أو نحو ذلك  بصلة كبيرة. وإلا فإنه من غير المعقول أن تقارن - من هذه  النواحي - بين عاصمة عظيمة كالقاهرة وبلدة صغيرة جداً مثل    (دنفر)  فهذه بلدة لا يكاد يدرى بها أحد إذ لا يزيد تعدادها  الآن عن ١٥٨٠٠٠ نسمة وليس لها ميزة معينة ولا شهرة خاصة  ورغم هذا فقد استطاعت مكتبتها - حسب ما جاء بالتقرير الذي  أسلفت الإشارة إليه - في فترة قدرها حوالي ٤٠ سنة بعد  إنشائها أن تمحو الأمية والجهالة من البلدة وضواحيها محواً تاماً  ولا تزال عاملة إلى الآن على نشر المزيد من الثقافة والمعرفة بمنتهى  الجد والنشاط. ويكفي شاهداً على مقدار تقدمها أن كل ثروتها  عند افتتاحها عام ١٨٤٢ كانت ٣٥ مجلداً فبلغت اليوم ٥٠٠ , ٠٠٠  مجلد تقريباً أي ما يعادل ثلاثة أمثال عدد المواطنين جميعاً.

وليست العبرة بكثرة ما في المكتبات من مجلدات وإنما بمقدار  تداولها والاستفادة منها طبعاً. . ولهذا نجد أن أهم الأقسام في  هذه المكتبة وأضخمها جهداً هو قسم التوزيع كما نجد أن أبرع  أعماله هو توصيل الكتب بواسطة سيارات معدة لهذا الغرض  إلى القاطنين في الضواحي أو القرى المجاورة وإلى الفلاحين في  مزارعهم وإلى العمال في مصانعهم وإلى المرضى في المستشفيات. . .

 الخ. وعلى ذلك يندر - كما يؤيد التقرير - أن تدخل منزلا  هناك دون أن تجد في أوقات الفراغ رب البيت يقرأ ما يزيده خبرة  أو متعة. . وربة البيت تقلب بين يديها   (كتالوجات)  عن فنون  الطهي وألوان الطعام. . والأطفال يستمتعون بكتب مزدانة بصور  هزلية طريفة ترمز إلى معان مختلفة. . والخدم يطالعون قصصاً  وإرشادات صحية. ونحو ذلك.

ومن طريف ما يذكر عن هذه المكتبة أن أغلب وظائفها -  كمعظم المكتبات الأمريكية - مقصورة على النساء ولهن  نصف كراسي المجالس العليا التي تتولى الإشراف عليها وكثيراً  ما يظفرن بكرسي الرياسة!؟

اشترك في نشرتنا البريدية