حول رسالة آنسة
قلت في إحدى مقالات (شعراء الموسم في الميزان) أثناء نقد قصيدة السيدة منيرة توفيق: (والمرأة المصرية تستمد صمتها من أبي الهول، ولا أعني إلا الإمساك عن التعبير عن الإحساس والعواطف تعبيراً صادقاً؛ فمن شعرت من بنات مصر فإنما تقول في الأخلاق والنصائح، متجاوزة خوالج النفس ودقائق الحس، لأن طبعها الصموت الحي يأبى الحديث عنها، وأعتقد أنها لو فعلت، وكانت موهوبة التعبير والأداء لأتت بالغرائب) .
ومنذ أيام وردت إلي هذه الرسالة في بريد (الرسالة) ، وهي بعد الديباجة: (طالعتني الرسالة في عددها - ١٦٢ - بكلمتكم الغراء عن المرأة المصرية وتنحيها عن التعبير الشعري في ميادين الأدب بإحساس النفس وخوالجها. أقول الشعر بالسليقة ثم أخذته دراسة لميلي الفطري، ولدي الكثير في الغزل والوصف والرثاء والحماسة إلى غيره من أبواب الشعر ولكني لا أجرؤ على نشره؛ وقد دفعتني كلمتكم إلى إرفاق مقطوعات من بعض ما لدي دفاعاً عن المرأة المصرية. فإن استشع ر أستاذي فيها خيراً أقبلت على النشر وواليت الإنتاج. أنتظر رأيكم على صفحات (الرسالة) وكم في (الكنانة) من مثيلاتي؛ وتنازل بقبول أسمى تحياتي.
فهذه الآنسة، وإن كانت تعبر عن إحساسها لا تجرؤ على نشر ما تقول، كما تقول، وتدفع عن المرأة المصرية تهمة القصور باطلاعنا على قطع من شعرها أكثرها في الغزل. . . ونسوق إلى القارئ منه شيئاً:
تقول في أبيات عنوانها (سهام) :
كان الفؤاد يقول لو ذقت الهوى ... ونعمت حيناً مثل من ناجى اللوى
ظن الغرام عادة لم يدر ما ... يخفيه من ليل المحب وما طوى
ذكر اللقاء وما به من لذة ... لكنه جهل الصبابة والنوى
فنصحت مهلاً يا فؤادي واتئد ... ليس الغرام كما ظننت بما احتوى
لكنه ما يرعوى عن غيه ... ومضى به شوق الغرام إلى الهوى
والآن من سهم اللحاظ معذب ... قد ذاب من وله يود لو ارعوى
وهذه جرأة نجرؤ على أن نقول إن فيها كسباً جديداً للأدب، فإذا كان الشعر يستمد أكثر ما يستمد من العاطفة، فالمرأة هي العاطفة، وهي تلهم الرجل الشعر، فإذ تشعر هي فإنما تنفق عن سعة وتتدفق من معين.
والحق أن المرأة إنما تحجم عن هذا الميدان لأنها تخشى إنكار لرجل عليها، فهي لا تقول الشعر المعبر عن حقائق نفسها لأنها ترى أنها ستقوله لنفسها، فتؤثر الصمت؛ ولعل رسائل الحب الخاصة أفسح مجال لها، فهي تحسن فيها وتبدع، فلو أتيح لها أن تظهر في حلبة الشعر مطلقة الحرية في التعبير لبذت وفاقت.
وبعد، فإلى الآنسة (ف. ع. ح) يساق الحديث: أشكرك على خطابك الرقيق، وأحيي فيك هبة الشعر التي تبدو فيما بعثت به، وإن كان يعوزه الشيء الكثير من سلامة الأسلوب ومتانة النسج وصحة المعاني، وترتيب الأفكار. ولعل ما قرأته في نقدنا للشعراء يهون عليك وقع هذا الكلام، فقد عاهدنا الحق أن نسلك سبيله لا نحيد عنه. وإن كان هذا بدء معالجتك لقرض الشعر فهو يبشر بالإجادة؛ فأحب لك الآن أن تقبلي على المطالعة والدراسة أكثر مما تقبلين على الإنتاج والنشر.
