لقد
انتهى البحث بالغزالى الى ان كافة المتكلمين تشملهم وصمة واحدة هى وصمة الذهول عن كونهم يستعملون جميعا لفظ " العقل " و ان كانوا يعنون بهذا اللفظ مسميات مختلفة ! وان جميعهم اتفقوا على ان حاصل النشاط العقلي ينحصر فى " الاستنتاج " اى فى استنباط حقيقة او حقائق من حقيقة معلومة من قبل !
فكان العقل عندهم ليس الا وسيلة من وسائل الشرح والتحليل والتوضيح والعرض ، وكان العقل لوصح وصفهم اياه وتحليلهم خطاه عاجزا مطلق العجز عن اكتشاف حقيقة جديدة وعن اقتناص حق مطلوب !
والغزالي أدق وصفا للعقل ولخطاه وأبرع فى اكتشاف مجهول المواطن من الخريطة العقلية اذ هو اماط اللثام عن خطوة اصلية من خطى العقل ذهل عنها كافة المتكلمين رغم كونها هى التى بها يقتنص الحق وبها يكتشف الجديد : اعنى خطوة " الحدس العقلى " !
فكان الغزالي بهذا الاكتشاف أصدق غيرة على العقل وابر به واقوى انتصارا له من جميع اولئك الذين كانوا ينتصرون له ويتحمسون فى الدفاع عنه ناهيك أنه وسع دائرة قدرته ودعم اركان سلطانه وثبت خطاه فى ميدان البحث والطلب !
وانك لتستعرض كافة المفكرين الاسلاميين من متكلمين وفلاسفة ومن عقلين وغيرهم فلا يمكنك الا الاعتراف بانه ليس فيهم واحد لا الفارابى ولا ابن سينا ولا ابن رشد ولا ابن خلدون ولا اى مفكر اسلامى آخر يمكن له ان يزعم انه اصدق فهما للعقل ولخطاه من الغزالى او انه وسع دائرته من دون اجحاف بحقوق التجربة النفسية توسعا اكثر من الغزالى اوانه رفع من قدر العقل من دون خروج عن جادة الصواب اكثر من الغزالي أو انه انتهى في ميدان الصرامة العقلية إلى حد ابعد من الغزالي!
فقد وفق كامل التوفيق الى ان يميز دقيق التمييز بين النشاط العقلي حينما يكون شرحا وتحليلا وتوضيحا واستنتاجا والزاما بما تقتضيه الضرورة العقلية والمبادئ العقلية في دائرة المنطق واقيسته وسننه على طريقة ارسطو وانصاره من الاسلاميين عن النشاط العقلى حينما يكون هجوما على الحق واقتناصا له بوثبات الحدس ووميض بروقه في صحو سماء الفكر ! او حينما يكون النور ينبع او ينبجس في القلوب والخواطر على حد تعابيره المشرقة !
وليس من شك في ان الغزالي خطا بالعقل بفضل تحليله الدقيق خطوة حاسمة في تاريخ التفكير الاسلامى اذ بين نصيب متقدميه من الصواب ونصيبهم من الخطا ، فكان فهمه للعقل يجمع بين مختلف الجوانب التى اكتشفها المفكرون من قبل بل قل انه تجاوز ما كان للمتكلمين من " محدود الانتظار " فصعد الى اعلى قمة عقلية هى قمة " الحدس العقلي " الذى هو حسب تعبيره " مفتاح اكثر العلوم " ! ولئن كنت في حاجة الى ما يزيدك اقتناعا بسمو المكانة التى يتمتع بها العقل عند الغزالي فلن تجد عبارة أوضح ولا اقوى ولا ادمغ من هذه العبارة التى تحدد منصب العقل ومنصب الشرع فى حين واحد : قال الغزالى في كتاب "معارج القدس في مدارج معرفة النفس " : " الشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل ! وهما متعاضدان بل متحدان ! "
وانك لتقف امام هذه العبارة الرائعة بايجازها وتمعن فيها النظر فلا يمكن لك الا ان تجد فيها اروع اساس واقواه واثبته لمقالة الاستحسان العقلى !
ولاريب عندى فى ان الغزالى كان فى امكانه ان يكون اعز نصير لمقالة الاستحسان العقلي او قل كان فى امكانه ان يجدد مقالة الاستحسان العقلى تحديدا رائعا بفضل اكتشافه الحدس العقلي وجود الحدس العقلى وبفضل ما بذل من جبار المجهودات فى سبيل تصفية حسابه الفكرى ورفع الانقاض ورسوم الفوضى عن عقول ابناء عصره ! كان فى امكانه كل ذلك !
ولكنك تعرف ان تآليف الغزالى جميعها حرب على المعتزلة وعلى مقالة الاستحسان العقلى ! فما السر في ذلك ؟ سؤال بسيط فى الظاهر ، جد خطير في الحقيقة ! والوقوف عنده حري
بان يسلمنا الى اهم النتائج الفكرية والاعتقادية وبان يعيننا على زيادة توضيح موقف الغزالى من العقل ! ولما كانت المسألة معقدة لا شتمالها على عدة جوانب وجب علينا حصرها في اصول نستعرضها اصلا اصلا !
الاصل الاول : يخص حقيقة الاستحسان العقلي كما يفهمة انصاره . فهم يرون ان العقل يحسن حسن الحسن ويقبح قبح القبيح ويصحح صحة الصحيح ويعنون بذلك ان العقل هو الأمر وهو الناهى وهو الهادىء اى انه هو الذى يحفز الانسان على العمل او يردعه عنه ويزجره ! وانه ليكفينا ان نتصفح كتاب " المستصفى من علم الاصول " وكتاب " احياء علوم الدين " للفهم جيدا موقف الغزالي من هذه المقالة ، فهو يردها من وجهين اثنين :
الوجه الاول : يستند الى التجربة النفسية ، فهي هي التي لها فصل المقال فى هذه الحكومة . يلاحظ الغزالى ان العقل ليس من وظائفه ان يامر او ان ينهى او ان يهدي . وظيفته تنحصر فى النظر وفى الفهم . وليس هو الدافع او الحافز او المحرك او الرادع او الزاجر ! وانه ليكفى ان ننظر فى انفسنا بعين الباطن لنتبين ان بواعثنا النفسية ليست من عنصر الادراك بل هى من عنصر النزوع حسب لغة علم النفس الحديث !
وهذا هو بالضبط ما فهمه الامام الاشعرى من قبل حينما قال : ان العقل يوجب شيئا !
ولكن الغزالى لم يكتف باثبات ذلك وتأكيده بل أتى بنظرية نفسية برمتها حلل فيها البواعث النفسية على اختلافها وما اشتملت عليه من اصناف الميول والعادات والاوهام والاهواء وبين انها غير العقل
قال فى كتاب " المستصفى من علم الاصول " " تسمية العقل مبيحا مجاز كتسميته موجبا . فالعقل يعرف الترجيح ويعرف انتفاء الترجيح " لا غير ، معنى ذلك انه ليس المحرك وليس الرادع ! بل يلاحظ الغزالي في شىء من المرارة : خلقت النفوس مطيعة للاوهام وان كانت كادبة ! " وهي تميل عند اكثر الخلق الى الاسهل والاوفق للطباع ! زد على ذلك مفعول العادة ومفعول الالف ! قال الغزالي : " فاذا قلت هذا مذهب الاشعري او الحنبلى او المعتزلي نفر عنه ان كان يسئ الاعتقاد فيمن نسبته اليه "
وقال : " اكثر اقدام الخلق واحجامهم بسبب هذه الاوهام "! وخلاصة القول فالتجربه النفسية تدلنا على ان بواعث النفس ليست العقل كما زعم اصحاب الاستحسان العقلى!
اما الوجه الثانى الذى رد منه الغزالي مقالة الاستحسان العقل فهو الوجه النظري اعنى ما يخص مدى قدرة العقل وسلطانه فى ميدان المعرفة !
وليكن ثاني الاصول التى اردنا استعراضها لتوضيح المشكلة . نحن على ذكر من ان كافة المتكلمين قبل الغزالي كانوا يحصرون العقل فيما يسمونه " العلوم الضرورية " وهو فهم ضيق للعقل من دون شك .
امن العجيب بعد ذلك ان تكون ثمرة هذا " الضيق النظرى " ثمرة جافة ليس فيها رحيق الحق ولا نوره !
ولقد شرح لنا الغزالى ضيق النظرية فضرب لنا على عادته امثالا رائعة تجعلنا تلمس بالاصابع مواطن نقصها واسباب عجزها عن درك اسرار الوجود وزبدة المعانى . فلاحظ ان حرصهم على تطبيق المبادىء العقلية فى المنظور وغير المنظور اسلمهم الى نتيجتين اثنتين او جعلهم عرضة الى خطرين اثنين .
اما النتيجة الاولى فقد اعرب عنها بضربة مثل النملة على القرطاس ؛ قال فى الجزء الاول من كتاب احياء علوم الدين : " لو خلق لها عقل وكانت على سطح قرطاس وهى تنظر الى سواد الخط بتجدد فتعتقد انه فعل القلم ولا تترقى فى نظرها الى مشاهدة الاصابع ثم منها الى اليد ثم منها الى الارادة المحركة لليد ثم منها الى الكاتب القادر المريد ثم منه الى خالق اليد والقدرة والارادة . فاكثر الخلق مقصور على الاسباب القريبة السافلة مقطوع من الترقى الى مسبب الاسباب ! "
اما النتيجة الثانية التى انتهت اليها مقالة الاستحسان العقلي وانتهى اليها أنصارها لفهمهم الضيق فهى أفدح وهى تشمل بوصمتها كافة المتكلمين واصحاب الجدل ممن يحكمون العقل فى مسائل ما وراء الطبيعة . وقد شرحها الغزالي أروع وصف بمثل ضربه فى الجزء الرابع من كتاب احياء علوم الدين وسماه مثل العميان والفيل ! قال : فاعلم ان جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل الى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي تقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا اليه لمسوه فوقع يد بعض العميان على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على اذنه
فقالوا قد عرفناه فلما انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت اجوبتهم فقال الذى لمس الرجل : ان الفيل ما هو الا مثل اسطوانة خشنة الظاهر الا انه الين منها وقال الذي لمس الناب : ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس فى غلظ الاسطوانة اصلا بل هو مثل عمود . وقال الذى لمس الاذن: لعمرى هو لين وفيه خشونة فصدق احدهما فيه ولكن قال : ما هو مثل عمود ولا هو مثل اسطوانة وانما هو مثل جلد عريض غليظ ! فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه اذا اخبر كل واحد عما اصابه من معرفة الفيل . ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل ولكنهم بجملتهم قصروا عن الاحاطة بكنه صورة الفيل ! فاستبصر بهذا المثال واعتبره فانه مثال اكثر ما اختلف الناس فيه وان كان هذا كلاما يناطح علوم المكاشفة . . . ويحرك امواجها! ..."
ولئن وقفنا امام هذين المثلين ودققنا فيهما النظر وتأملنا فيهما مليا فهمنا بالضبط موقف الغزالي من العقل وفهمنا بالخصوص موقف الغزالى من كافة المتكلمين والمنتصرين للعقل فى الميدان الفلسفى !
فالغزالي مؤمن ارسخ الايمان بان العقل انفس وظيفة فكرية لدى الانسان . بها يحتل الانسان مكانة ممتازة فى الوجود وبها يميز عن الحيوان ! وبها يعرج الى شرف التكليف والمسؤولية . ثم هو مؤمن بان العقل ليس مجرد " العلوم الضرورية " بل نور وحدس . وهو " منبع العلم ومطلعه وآساسه " وهو " مصيدة المعارف والفهوم " ولذلك نرى الغزالى يسخر من كل من ضيق دائرة العقل وحجب قدرته على اقتناص الحق!
ولكنه فى نفس الحين حريص كل الحرص على ان يسطر " حدود العقل " كي يكون في امان من الضلال ومن الدعاوي التي لا تنهض على اساس !
ولقد دلته الحياة الباطنة او التجربة النفسية ان العقل سجين الحس وانه ان حاول الخروج عن العالم الحسى او عن عالم الشهادة فانه لا يمكن له الا ان يعطينا صورا جزئية جافة من الواقع تدفع بعضها بعضا وتنفى بعضها بعضا ؛ فيكون الشك ويكون تكافؤ الادلة!
ولذلك وجب ان نعتمد العقل فيما يخص المشاكل التى نصطدم بها فى عالم الحس والشهادة اما فيما يخص مشاكل ما وراء المادة فانه يجب ان نعتمد الوحى وما نزل به الوحي ! امعنى هذا انه يجب تطليق العقل او عزله ؟ وما معنى ما قاله اذن آنفا اذ اكد ان العقل شرع من داخل وأن الشرع عقل من خارج وانهما متعاضدان بل متحدان ؟ " وهذا هو ثلث الاصول التى حصرنا فيها موقف الغزالي من الاستحسان العقلى .
