الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 868الرجوع إلى "الرسالة"

أجواء، تأليف الأستاذ حسن محمود

Share

كتاب صغير الحجم، قليل الثمن، ولكنه على صغر حجمه،  وقلة ثمنه، يجمع بين القيمة الفنية الكاملة، والمتاع النفسي الوفير.

ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ حسن محمود، وهو كاتب  قصصي من طراز رفيع، يعمل للمجد الأدبي، دون أن يحفل  بالشهرة الزائفة، ولذلك يعني كل العناية بجودة إنتاجه وإتقانه،  لا بكثرته والإسراع فيه.

وهذا الكتاب يضم طائفة من الأقاصيص ذات أجواء مختلفة  بعضها يمثل الحياة المصرية التي يعرفها الأستاذ عن خبرة وتجربة،  وبعضها الآخر يمثل الحياة الأوربية التي ألم بها في رحلاته وأسفاره،  وإن كانت هذه الأجواء المختلفة تتفق في أنها تصور النفس البشرية،  في إطارها من الحياة الإنسانية العامة.

وكثيرون من كتاب القصة المصرية يهدفون في قصصهم  إلى إثارة القارئ إثارة حسية، أما بالإكثار من وصف أجساد

النساء، وإما بالاعتماد على الحوادث الضخمة المثيرة، وإن كانت  في صميمها فارغة من المعاني والدلالات! ولكن هؤلاء لا يفهمون  فن القصة، ولا يعرفون رسالتها الفنية، وإنما يعرفون ويفهمون  شيئا واحدا هو اكتساب الشهرة الزائفة، بتملق غرائز الجماهير!

أما الأستاذ حسن محمود فإنه يعني في قصصه أول ما يعني،  بإبراز الأثر الداخلي الذي تعكسه الحوادث الخارجية في نفوس  شخصياته؛ فالحادثة عنده لا تقصد لذاتها، ولكن لأثرها  النفسي، ومن ثم تكون الحادثة الصغيرة لها حظ كبير، لأنه  يعرف كيف يستلهم منها المعاني الكبيرة، وكيف يستخرج منها  الدلائل العميقة، وهذه هي المقدرة، وتلك هي البراعة. وشيء  آخر يتصل بذلك، هو أن الأستاذ حين رسم شخصياته لا يعتمد  في ذلك على الألفاظ وحدها يسرد بها أوصاف تلك الشخصيات  سردا متتابعا، كما يفعل بعض كتاب القصة عندنا، ولكنه يوزع  لمساته التصويرية على أجزاء القصة كلها؛ ليتسنى له استخدام  الحوادث في الرسم والتصوير، فلا ينتهي من القصة حتى تكون  شخصياتها قد استوفت حظها من دقة التصوير، وبلغت قسطها  من قوة الحياة.

وقد قلنا أن الأستاذ حسن محمود لا يعتمد في إثارة قارئه على  الحوادث الضخمة المثيرة؛ ونزيد هنا أن مادة قصصه لهذا السبب  تمتاز في مجموعها بالبساطة والعمق؛ لأنه يتناول الحادثة البسيطة  في مظهرها الخارجي، فيتعمقها بفكره وروحه وتجاربه، ثم  يعرضها لنا، فنرى فيها ما لم نكن نرى، ونفهم عنها ما لم نكن  نفهم، وهو من أولئك الملهمين الذين يلتقطون الفتات المتساقط  من مائدة الحياة، فيحيلونه بفنهم أعظم غذاء للنفس الإنسانية,  في حياتها المثالية الرفيعة!

وأسلوب الأستاذ في قصصه، يلائم مادة هذه القصص كل  الملائمة؛ فهو مثلها بسيط عميق، ينساب كالماء في رقة ودعة،  لا من ضحولة مجراه، ولكن من طبيعة مسراه، فلا ترى فيه  العبارات الطنانة، والكلمات الضخمة، وإنما هي كلمات طبيعية  يؤلف بينها في حذق وبراعة، فإذا هي عميقة الدلالة، قوية الإيحاء،  وافرة الأنغام والأصداء، والأضواء والظلال!

والأستاذ هادئ الشخصية، كما يبدو من خلال أسلوبه،  وطريقة عرضه لقصصه، هادئ حتى حين يريد أن يسخر من  بعض الناس سخرية خفيفة مبطنة، فتراه يفعل ذلك في شيء أقرب  إلى الحياء، وبصورة لبقة مهذبة قد تثير الضحك، ولكنها على  كل حال لا تجرح الإحساس!

وهو هادئ أيضاً حي يلمس في قصصه أحزان الناس  ومآسيهم، وليس ذلك من قلة تأثره بها، ولكن لأنه من أولئك  الذين يحزنون في صمت، فيكون صمتهم ابلغ من كل كلام حزين!  وصراخ الإنسان قد يثير الفضول أكثر مما يثير الرثاء والإشفاق،  ولكن دمعة واحدة تذرفها عين محزون، في صمت وسكون، تهز  النفوس، وتثير الدموع!

وهو حين يسجل الانفعالات النفسية لشخصية إنسانية،  يحيطها بما يلائمها من الأجواء والمشاهد، فيكون ذلك منها بمنزلة  الإطار من الصورة. يتجلى ذلك في قصته (نظرة إلى شاعر) .  ففي هذه القصة تراه يرصد الانفعالات النفسية كما تظهر في شخصية  شاعر ركب معه القطار الذاهب من مدينة (بون) الألمانية، إلى  (كوبلنز) ويسجل مع هذه الانفعالات المختلفة، ما يطرأ على  مشاهد الطبيعة من تغير واختلاف، بحيث يجعل من ذلك كله  وحدة متناسقة.

وهو ينتقل بشخصياته من جو إلى جو، ومن حال إلى حال،  بعد أن تمهد لذلك تمهيدا مناسبا، بحيث يبدو هذا الانتقال طبيعياً  ممكنا، لا أثر فيه للتكلف والاستحالة، وهو يقتصد في طريقة  عرضه، بحيث يتجنب الحواشي والفضول، كما يقتصد في تعبيره  بحيث يخلص في لباقة من الكلام المكرر المألوف إن لك يكن منه  بد في موضع من مواضع القصة؛ ففي قصة (قسم) نرى حسيناً  يسير بعد الغروب في طريق مهجورة، ثم يتنبه فجأة لوقع أقدام  تطأ الأرض بخفة, فيلتفت وراءه, فإذا فتاة مصرية غضة الشباب  هيفاء القوام تسير مثله في هذه الطريق. . . فلو أن قصاصا آخر عرض  لمثل هذا الموقف في قصة من قصصه، لاستغله كما يشاء، في كلام  كثير، وحوار طويل الحس، وينبه الغرائز.

ولكن الأستاذ حسن محمود يكتفي في هذا الموضع بأن يقول: ارتاحت نفس حين لمنظر هذه الفتاة، فسار إلى أن حاذاها عازماً

على أن يكلمها بأية وسيلة، ولسنا نريد أن نقص كيف بدأ الحديث  فإن حسينا لا يذكر كيف كان ذلك، ونحن لا نود أن نفضح سرهما،  ولكننا نقول أننا رأيناهما يسيران جنبا إلى جنب، ثم كانا بعد نصف  ساعة في سيارة تسير بهما سريعا إلى حيث مسكن الفتاة). وهذا  غاية في حسن الإيجاز، وبراعة التخلص.

وللأستاذ حسن محمود ملاحظات صائبة، ينثرها في خلال قصصه  وهي ملاحظات تنم عن تجارب كثيرة، وثقافة واسعة، وفهم  عميق للحياة.

أما بعد، فقد حلقت في هذه الأجواء حينا من الزمن، فأتاح  لي ذلك لذة روحية عميقة، ومتعة نفسية كاملة، فمن واجبي أن  أوجه إلى صاحب هذه الأجواء، شكري الخالص لما أتاح لي، ومن  واجبي كذلك أن أعبر له عن تقديري الصادق لمقدرته الفنية. وأنا  أعلم أنه لن يرضى عما كتبته عنه، تواضعا منه وحياء؛ فقد عرفته  جم التواضع، وافر الحياء. ولكن ما ذنبي أنا، وما كتبته هو الحق  والحق ينبغي أن قال؟

اشترك في نشرتنا البريدية