قال الصوفي : " إن أساس التصوف - بل أساس الديانات كلها - أن وراء العالم المنظور عالما آخر غير منظور ، وأن العالم غير المنظور يختلف في صفاته عن العالم المنظور ، فهو لاحجم له ولا زمان ولا مكان ، وأقرب مثل له آراؤنا وأفكارنا وذكرياتنا ، فنستطيع أن نفكر ما لا عدد له من الأفكار من غير ان يكون لها حيز .
وكثير من تعاليم الدين لا يمكن الوصول إليها من طريق العلم ولا الفلسفة . كالحياة بعد الموت ، فليست وسائل العلم ولا الفلسفه صالحة للوصول إلى هذه الحقيقة نفيا أو إثباتا ، لأنها ليست من جنس مادته ، ولا من جنس ما يبحث فيه أو يصل إليه .
إن إدراك هذا العالم الروحي لا بد أن ينظر إليه من زاوية غير زاوية المنظور لان طبيعته ليست كطبيعة المنظور ، وما قيل من وصف الجنة والنار والحياة الاخرة لم يعبر تعبيرا تاما عنها ، لان اكثر النفوس لا تستطيع فهم المجردات ، ولان اللغة لم توضع إلا لشئوون الحياة المنظورة ، فاضطر المعبرون عنها ان يلجئوا إلي الفاظ الدنيا وتعبيرات الدنيا على طريق المجاز . والحياة الأخرى ليست كهذه الحياة في خضوعها للزمن ، ولا شأن لها بطلوع الشمس وغروبها ، وهو اهم عامل في الزمان فإذا جردت الحياة من الزمان كان طابعها مخالفا كل المخالفة لحياة الدنيا وشؤونها
إذا فالحياة الروحية لابد أن تدرك بأساليب أخري . وأهم وسيلة لها هي الرياضة . والغاية من هذه الرياضة تهيئة الشعور للاتصال بهذا العالم الروحي كما يعد الشخص للتنويم المغناطيسي . وما الشعائر من صلاة وصيام إلا أنواع من هذه الرياضة ، وكذلك ما فعل رسول الله من التعبد
في غار حراء قبيل البعثة كان من هذا القبيل ، وكذلك استحضار الله في القلب ودوام ذكره ، ونحو ذلك كلها وسائل لإعداد الشعور ، وعند بعض الافراد ذوي الاستعداد تسفر هذه الرياضات عن نتائج غريبة .
فيري الدنيا غير ما تري في العادة - كأن ينعدم الفرق بين ذاتي وغيرى فلا ذاتية ولا غيرية ، وتنعدم الفروق بين الأشياء ، فلا شئ مستقل بنفسه كالعالم يقرأ العالم كله خلية متكررة ، وهو شئ غريب في الحياة العادية ، ولكنه امر مألوف في الحياة الصوفية . وعلى الجملة فهو يري العالم من زاوية غير الزاوية التي اعتاد الناس ان ينظروا منها . فإذا هو امعن في هذه الرياضة استغرق في شبه غيبوبة ، وكان في شبه حلم ، ورأي كأنه انغمس في نور واتحد به ، ورأي وسمع مالم يستطع وصفه إلا عن طريق الرمز ، وإنما يفهم رمزه من ذاق مثل ذوقه ، وهذا هو ما كان من امثال ابن العربي وابن الفارض وغيرهما من المتصوفة في كل أمة وكل دين .
والناس معذورون في إنكارهم هذا لانه شئ لم يعتادوه في الحياة المألوفة ، والصوفية معذورون لأنهم يصفون ما يرون .
وغاية الأمر أنه في هذا الباب مهرجون ونصابون ومزيفون كما هو الشأن في عالم المعقولات في حياتنا العادية . ففي حياتنا من يهرج في الخطابة ويبعد عن المنطق الصحيح ، ومن يوهمك أنه مخلص وليس بمخلص ، ومن يلبس باطله ثوب الحق ونحو ذلك ، فكذلك في عالم الروحانيات ، صادق وكاذب ومحق ومزيف ، بل ربما كان التزييف في هذا الباب أكثر لأن الحياة المادية قد تنضبط بالمنطق . أما هذه فمرجعها الذوق والشعور ، وهو من الصعب ضبطه . فما تري من مظاهر ارباب الطرق كالطبل والزمر واللعب بالذكر والمراسيم الصوفية كلها ليست من التصوف الحق في شئ ، وإنما هي صوفية مزيفة ، والمتصوف الحق قد يباشر أمور الدنيا
ويتصرف في الحياة بالتجارة او الصناعة أو نحوها ، وليس بشعر بروحانيته إلاخاصته ، ومن هم على نمطه ، وحتى إذا ذكروا الله ذكروه بقلوبهم ، ولم يحركوا بذكره لسانهم .
والصوفي الحق رجل تيقظ شعوره فاتسعت آفاقه وتكسرت حدوده - يرتفع الصوفي فوق تفاصيل الحياة الدنيا كما يرتفع الطائر في طائرته ، فيضعف شعوره بشخصيته ويذوب في العالم الذي يسبح فيه . ويسبح في هذا الافق الشاعر والفنان والصوفي والنبي على اختلاف في منازعهم ومداركهم وإلهامهم ووحيهم وحقيقة رسالتهم . إنهم جميعا يدركون العالم وراء حدود مادته وأشكاله . إنهم بعواطفهم المرهفة يرون ان الإدراك الحسي والعقلي لاقيمة له بجانب إدراك الشعور العاطفي . إنهم يقرءون في النجوم والسماء ، والبحار والأنهار والأشجار ما لا يقرأ الناس ويدركون في الأشياء كلها وحدة تعز عن الوصف . إنهم يرون الظاهر أمواجا فوق سطح البحر ، أو أوراقا تورق وتسقط والشجرة باقية . إنهم يذيبون أنفسهم في مصدرها .
إذا كان جمهرة الناس يدركون الله حاكما مسيطرا على العالم يضرعون إليه في قضاء حوائجهم فالصوفي يراه القوة التى ينبض بها قلب الإنسان وقلب العالم ويتحول بها غير المنظور إلي منظور ، ولذلك يحول الصوفي عينه من الجزئيات والأشخاص والأفراد إلي المنبع الواحد الذي تفرع إلي مظاهر مختلفة "
وهنا أفاض محدثي في ذكر ما يجده الصوفي من وحدة الوجود والحب الإلهي وما إلى ذلك ، وانه ينتهي الأمر إلى الهيام بالعالم غير المنظور وحقارة المنظور .
قاطعته بقولي : إني أومن بأن الرياضة الصوفية تصل بصاحبها إلي رؤية العالم من زاوية غير الزواية التي اعتاد الناس الرؤية منها . ولست أشك في صدق كبار الصوفية امثال ابن العربي وابن الفارض والغزالي وغيرهم وامثالهم من
متصوفة الأديان الأخرى ، وأنهم حقيقة يصفون ما يشاهدون ولكن هل هم يرون الحقيقة ، أو أن رياضتهم النفسية وكثرة مجاهدتهم للنفس من جوع وصيام وعزلة ورهبانية تجعل نفوسهم غير طبيعية ، فيرون ما لا وجود له ، هل هم المحقون والإنسان العادي مخطئ أو هم المخطئون والإنسان العادي مصيب ؟ إذا كنت اري الأشياء بعيني المجردة ويأتي آخر فيلبس منظارا أزرق أو أصفر فيري العالم كله من خلال منظاره ازرق او اصفر ثم يصف ما يري فهو صادق ، ولكن هل لون العالم الذي سببه المنظار هو الحق ؟ هل الصوفية لبسوا منظارا فأوقعهم في الخطأ او أن عينى المجردة هي المخطئة وانهم لم يلبسوا منظارا ، وإنما كان على عيني وأعينهم غشاوة فأزالوها هم عن اعينهم ؟ هل الزاوية التي ينظر منها الصوفية إلي الأشياء هي الزاوية الصحيحة أو الزاوية المنحرفة ؟
تبسم من قولي وسكت برهة ثم قال : إن الصوفي لم يضع على عينيه منظارا ملونا يري به الأشياء ملونة بلونه . إنما هو أمسك مكروسكوبا يري به الأشياء على دقتها . وما قيمة ثقتك بعينك المجردة ؟ إنها تريك الشمس في حجم الرغيف وتريك النجم في حجم الكرة وتريك الشئ املس وهو مملوء بالتجاعيد . إن علمكم المادي يهزأ بالحواس ويؤمن بنقصها ويخترع كل يوم ما يكمل هذا النقص .
وإن بصيرتنا التي تصل إلي جلائها من طريق الرياضة خير ألف مرة من بصركم في كشف الحق . وآية ذلك أن حواسكم وعلمكم المبني على الحواس لم يستطع أن يفسر العالم الذي نعيش فيه تفسيرا شاملا بل عجز عن تفسير الحياة والموت وعجز عن بيان علاقة المخ بالفكر وعجز عن تفسير ظواهر لا تجري على المألوف ، فلما تصوفنا استطعنا ان نكشف ببصيرتنا ما عجز عنه العلم وان نؤمن بما كفر به العلم . وأمر آخر وهو ان كثيرا من خيار المتصوفة جمعوا بين العلم والتصوف ، وبين لذة العقل ولذة الكشف ، فلما
وازنوا بين النتيجتين آثروا الكشف على العلم - هم لم يكفروا بالعلم ورأوا لذته وقيمته ، ولكن رأوا الكشف وجلاء البصيرة اعلى منه شأنا ؛ ومثل ذلك مثل من جرب اللذة الوضيعة واللذة الرفيعة ثم آثر الثانية على الاولي ، اليس هذا دليلا على سمو الثانية ، وعلى ان حكم مجربي الامرين خير من حكم مجربي أمر واحد .
ودليل ثالث وهو أن المتصوفة من جميع الأديان في جميع الأزمان وصلوا عن طريق الرياضة إلي نتائج متماثلة ، ولو كانت مجرد خيالات لكان لكل إنسان خياله الخاص .
إن الزاوية التي تذكرها وينظر الناس منها إلي العالم هي زاوية العوام واشباههم ، ولذلك يأنف من النظر منها حتي علماء المادة انفسهم ، ويجتهدون ان يعمقوا حتى يروا العالم كله وحدة من خلايا متشابهة كما يجتهدون ان يسموا حتي يدركوا المادة غير متأثرة بعامل الزمان والمكان ، وقد يلتقون في آخر طريقهم بالتصوف في بعض الطريق .
وأخذ يهجم علي فكرة أخري ثم سكت فجأة .
فسألته : ما باله ؟
قال : تلك شقشقة هدرت ثم قرت !
وافترقنا على موعد .
