الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 186الرجوع إلى "الرسالة"

أحبك أيها الشتاء !

Share

" ألف أدباؤنا أن يكرهوا الشتاء لأنه فصل قاتم الأحشاء , يفرون من جو الثقيل ولا يدعون شعره تنفذ إلى قلوبهم , ولكني أراني تدفعني إلى لقاء الشتاء دوافع لا أستطيع لها دفعًا , وقد أترك القطر الذي لا تظهر فيه آثار الشتاء كثيرًا إلى قطري الذي تتجلى فيه "

" خ . ه "

أحبك أيها الشتاء ! أحب غيومك المتناطحة فى الأعالي , تغشى السماء فتحجب زرقتها عن العيون , وتسطو على النور فتتركه قاتم الأحشاء أحب خيوطك المتواصلة التي لا تنقطع , كأنها أغنية . السماء للغبراء أحب طيورك السوداء النازحة , هائمة بين الأشجار الجرداء , أو محلقة فى الأجواء أحب أشجارك العارية لأنها خلعت ثيابًا قديمة وطرحت أوراقًا ذاوية , تاركة لغيرها حق النماء أحب عصافيرك التي تتوارى فى الغيوم المدلهمة وقد صرفها . التأمل عن الغناء أُحب هامات الجبال المكتسية بالثلوج , وبطونها التي في كل منحدر منها ساقية تغني , وفي كل منبطح جدول له خرير أحب رائحة الأرض التي تنم عن كنوز تنطوي عليها فأفعم نفسي بشذاها , وأملأ قلبي من طيب ثراها

أحبك حيثما كنت أيها الشتاء !                                                                   أحبك وأنت تزجي إلى مدينتي الغيوم السوداء                                                      تطرح على غامرها وعامرها شباكًا من خيوطك المتواصلة                                               فما يبالي العاملون بك ، ولا يفر الساعون منك ؛ يمشون                                             سراعًا تحت شباكك إلى العمل الذي يناديهم !

أحب هذه الحجب القائمة التي يطرحونها على أبدانهم يتقون بها برد الشتاء إنهم يريدون أن يصافحوك تحت هذه السرابيل ولا يريدون منك فرارًا أحبك وأنت تغشى مدينتي لأنني أرى قلبها ينبض ويخفق بههؤلاء المتزاحمين صفوفًا متراصة فى كل شارع ؛ تدوي أصواتهم في قلبك وقد كانت هامدة , وتعلو حركتهم فى جوك وقد كانت خامدة

أحب أنفاسك المتراكمة على المدينة حابسة أنفاسها فيها ... أتروَّح هذه الأنفاس فلا أجد إلا نفسًا واحدًا ، وأنت لو ميزت هذا النفس لرأيت أنه خليط من أنفاس متباينة ؛ أنفاس زفرت من صدور عاملين بائسين ؛ وأنفاس خرجت من رجال ونسوة مرحين كلها صدتها أنفاسك تحت غيومك , فردتها إلى المدينة نفسًا واحدًا ، أكاد - إذا تروحته - أن أقول : هذا نفس عاشقة تترنح ! وهذه زفرة بائس يتروح ! ولكنني لا أجدها إلا نفسًا واحدًا متمازجًا ؛ يعبق فى جو المدينة ، وينسل إلى دور المدينة فنهارك الحائل متحرك ، وليلك الحالك متحرك

هذه الحركة هى أبرز مظاهرك وخير ظواهرك , تنشأ وتنمو في حضنك أيها الشتاء ! أحب حركتك التي تدل على ثورة الأرض والسماء فيك , فكل شيء فيهما وبينهما ثائر يتحرك ! توحي غيومك المتناطحة معنى الحركة , وتهدي عواصفك الثائرة ورياحك الجائرة إلى الحركة , وتعلن فى كل مكان نزلت فيه الحركة ...

أقم ما شئت يا شتاء ! ولتدلهم - ما شاءت - غيومك ! فإنني أحببت كل اضطرابك , وأنست باصطخابك

يا علامة النفس الحية الثائرة !

اشترك في نشرتنا البريدية