تعتذر لى لأنك لم تستطع أن تحدثنى ، أو حتى تجيبنى عند ما شاهدتنى فى مقصف حديقة . . وأن السبب يرجع إليها لا إليك ، وأنك عرضت عليها أن أشارككما مجلسكما ، وأن تقدمنى إليها ، ولكنها رفضت واحتجت بتوعك مزاجها واضطراب أعصابها فى ذلك اليوم . . وتخبرنى أنك حدثتها عنى طويلا ، وقلت لها إنى سأكون أكثر الناس ترددا على منزلكما فى المستقبل عندما تحققان أحلامكما السعيدة ؛ وتشكو لي انقباضها واضطراب نفسها في ذلك اليوم ، وأنها خيبت أملك في جلسة هادئة تجمع بين الماء والخضرة والفتاة التي وهبتها قلبك ... والصديق الذي اصطفيته .
حسنا يا صديقي ! إني أشكر لك شدة إخلاصك وصفاء قلبك ، وليمنحني الله القوة على أن اقابل إخلاصا بإخلاص ووفاء بوفاء لقد ترددت ألف مرة ومرة في الكتابة إليك ، وهأنذا أدفع إليك أخيرا بهذه الرسالة ، واضعا صداقتك لي وكل ما تعنيه في كفة القدر ...
ولا أدري إذا كنت - بعد قراءة هذه الرسالة - ستلعنني أم تشكر لي صنيعي . نعم ، رغم الصداقة النادرة التي مرت بتجارب عدة صهرتها وطهرتها ، والتي قلما يجود بها الزمن مرتين ، بل التي قد لا يمنحها الزمن لكل الناس ، ورغم الايمان الهائل المتبادل بحسن النية وعمق الأخلاص ، أقول لا أدري كيف ستلقاني - إذا كنت ستلقاني - بعد أن تقرأ رسالتي هذه ...
هل تذكر رسالة قديمة أرسلتها لك منذ سنتين أو أكثر ، قلت لك فيها إننا نتدلل على الحياة ونسرف في هذا الدلال ، كما يسرف الطفل في التدلل على أمه ... ؟
والطفل يجد عند أمه تحقيق رغباته ونزواته وأحلامه ، يجد عندها الحب والحدب ، والغفران والحنان الذي لا ينضب ، ولكننا نخطئ كثيرا حين نتدلل على الحياة كما نتدلل على أمهاتنا ، ونخطئ حين نسرف في مطالبنا منها ، وننظر إليها بعين الأمل والأمان ، وننام في ظل أشجارها الخضراء ... آملين أن نستيقظ فنجد ثمارها الشهية مبعثرة حولنا على الأرض . إن الحياة تربت على أكتافنا بيمينها في رقة ، ثم تصفعنا بيسارها في قسوة ! عندئذ ندرك أن التدلل ، أن الاسراف في الأمل والأحلام نعيم نخلقه بخيالنا ، ولكننا ندفع فيه ثمنا فادحا ...
ولا أدرى إذا كنت سأرسل إليك هذا الخطاب . أم أمزقه ؛ فما زلت مترددا ... فليس أقسى على المرء من أن يفجع في أحلامه ، وأن يري الريح الهوجاء تجتاح قصورا عالية ضاعت الأعوام في تشييدها ، ولكن يجب أن نكون على استعداد للدموع دائما .
... وإني لأسترجع في ذهني الأحاديث الطويلة الشهية التي كنت تسر لي بها عن فتاة أحلامك ، وكيف أنك عثرت عليها ... وكيف أنها تشبه الماء الجاري المتجدد ، في حين أن بنات جنسها يشبهن الماء الراكد الآسن ... وإني لأتذكر بريق عينيك وبسمتك السعيدة المشرقة وأنت تحدثني عن شخصيتها وعمق تفكيرها ومميزاتها ... وحبها لك مع وجود من هو أجدر منك بهذا الحب ، فأشفق عليك من رسالتي هذه وما ستحدثه في نفسك ...
إن الصدفة الساخرة وحدها هي التي ساقتك أنت ، و " مني " إلي حيث كنت أجلس ، ولم يكن هناك حاجة لأن تقدمني إليها لأنها تعرفني جيدا ! ولأني أعرفها أكثر مما تعرفها أنت ... أنت لا تعرف إلا الطلاء الظاهر ، أما أنا فأعرف خبايا نفسها وأسرار روحها . ، هل عرفت الآن سر انقباضها ؟ هل آن الأوان لأحدثك
عن مني ؟ لأن أنبش من جديد ذلك القبر الجاثم في ساحة الذكريات المريرة ؟ ؟ إني أجفل من ذلك ولم أحاوله قبل الآن ، إن الجرح لم يندمل بعد رغم مضي السنين . ولكن شكرا لمني ، إنها أول من أنقذني من الخيالات الشفافة والأحلام البيضاء ؛ إنها أول من هزتني هزات عنيفة ، وفتحت عيني على بشاعة الحياة وقسوتها ومرارتها وحقيقتها . هل سأحدثك عن نفسي ؟ لا أدري سأحدثك لا عن " سامي " الذي عرفته وألفته وخبرته ، بل عن شخص تافة ضيعف الارادة وضيع التفكير ؛
كان ذلك في عام ١٩٣٩ ، وكنت أعيش بحكم وظيفتي في بلدة صغيرة تشبه سجنا ضيقا ، خالية من كل وسائل الراحة والتسلية ، وكنت ضيق النفس منقبضا عن الناس أقضي وقتي مع كتبي أو في الهيام بين المزارع الخضراء .
ولكنني عثرت على صديق واستطعنا أن نأتلف . . أحببته لبساطته وطيبة نفسه ، وإن كنت لا استطيع أن أعرف لماذا أحبني ! كنا نلتقي كل يوم . و نرتاض على الشاطئ ، أو بين الحقول ، وفي الشتاء كنا نقضي وقت فراغنا في منزله أو منزلي ، وكان عزبا مثلي . . وكانت مني تسكن قريبا من داره ، وكان والدها موظفا في تلك البلدة النائية ...
وعندما رأيتها أول مرة ، تقفز الدرج في خفة في سبيلها إلى حيث تقطن إحدي صديقاتها في نفس المنزل الذي كان يقطنه صديقي ، وكانت ثيابها تظهر كل محاسن جسدها الحار المغري ، تمنيت أن أمتلكها ليلة ، ثم سخرت من نفسي ومن رغبتي ، وتابعت صعودي في هدوء إلي مقر صديقي . . كانت تتقدمني بقليل ، والتفتت خلفها ، ونظرت إلي نظرة طويلة تعبر عن أشياء كثيرة ! هل كانت قد رأتني قبل ذلك ؟ لا أدري .
لم أفكر فيها كثيرا ذلك اليوم ، ولكن نظراتها ظلت تلاحقني بإصرار ، ولم اذهب لزيارة صديقي مرة
واحدة بعد ذلك إلا رأيتها من نافذتها القريبة من مسكنه . وكان بيننا حديث صامت بليغ ، وشعرت ان قلبي المتعب الشريد قد آن له أن يستريح . . هل صادفت " مني هوي من نفسي حقا ؟ لا اعرف - كنت شابا قليل الخبرة بالحياة ، ظامئا إلى الحب ، مفتقرأ إلى التجارب ، وكانت حياتي في تلك البلدة المجدبة حياة شظف وخواء وركود . . وشجعت ( مني) علي الاستمرار في طريقها .
وبعد أيام بعثت إلي في منزلي برسالة - مع غلام صغير - وخفت العاقبة ؛ ولكنها كانت رسالة رزينة محتشمة ، تبتدى بـ " أخي العزيز" ولا تحوي إلا عدة سطور تعبر بسذاجة عن فرحها وسعادتها . وأرسلت
مرة بعد مرة تطلب الرد . . فكتبت لها رسالة كرسالتها ، وتتابعت رسائلنا وازدادت جرأة وصراحة ، وجرى فيها ذكر أشياء كثيرة . وكنت أراها كل يوم تقريبا ، وأحيانا كنت أقابلها صدفة على الدرج في منزل صديقي الساذج الطيب القلب ، وعلى هذا الدرج قبلتها أول قبلة .
وعرفت شيئا عن مني من خطاباتها وملاحظتي الكثير من تصرفاتها . . أن مظاهرها لا تدل إلا علي ما يمتدح ويستحب : فهي محشمة في ملابسها ، مقتصدة في نظراتها ، رزينة في مشيتها وحديثها ، وعليها طابع الإعتزاز بالنفس والاحساس بالكرامة . وكانت خطاباتها تفيض بالمعاني العميقة الخالدة في أسلوب مشرق جميل ... وإن كانت أحيانا تتحدث عن أتفه الأشياء ، بلغة الحديث الدارجة ، كأنها تستحضر من تكاتبه في خيالها ، وتجلس إلى جانبه وتحدثه حديثا لا كلفة فيه .
وشعرت أن هناك منافسا خطرا يحاول اقتناص " مني " ولكنها كانت تنقل إلى كل أخباره ، وكل ما كان يفعله من أجلها ؛ ولم يدع لي هذا مجالا للشك فى إخلاصها ، واعتقدت أن وجود مثل هذا الغريم امتحان دائم لثباتها وإخلاصها .
ولم يكن هناك مجال للقاء طويل في هذه البلدة الضيقة خصوصا وأن الأهالي يعدون على الموظفين حركاتهم .
وكان قد مضي علي تعارفنا شهران أو ثلاثة عند ما اتفقنا على أن نلتقي في القاهرة : أن احصل أنا على إجازة وتسافر هي لتقضي أياما عند إحدي قريباتها .
وعند ما قابلتها لأول مرة في العاصمة عرضت على أن تقيم في فندق ، أن توهم عمتها أنها ستسافر إلى الإسكندرية وأن تحمل حقائبها إلى المحطة وتمثل دور المسافر ... ثم تعود الحقائب بعد قليل إلي فندق اختاره لها - ذهلت ! ماذا ؟ فتاة عذراء تعرض على شاب أن تعيش معه في فندق . أتراها واثقة من نفسها إلى هذا الحد ؟ أم بلغت بها طيبة القلب والسذاجة هذا المبلغ أم تظنني قديسا أم راهبا ؟ . رفضت
وكانت مني مثال العاشقة الوالهة التي استولى الحب على كل مشاعرها واصبحت أسيرة عاطفتها . . كورقة ذابلة ألقتها الريح على صفحة النهر فأصبحت أسيرة تياره الجارف .
وقضينا في القاهرة أياما هنيئة ، وشعرت من أحاديثها وتعليقاتها أنها تشفق على أكثر من نفسي وتعرف الحياة أكثر مني ، وأن نواحي الضعف أو القصور في لم تقلل من إعجابها بي استطاعت أن تفهمني - بعض الشئ - وتقدرني . وكان أظهر ما فيها الغيرة الشديدة .
كانت تغار حتي من مجرد تأملي فتاة عابرة في الطريق فتنظر إلي نظرة طويلة عاتبة . . والحب والغيرة توأمان . ولكن تصرفاتها لم تخل مما يثير شكى ... وسخطي ؛ كانت تسهر معي أحيانا إلي منتصف الليل ونغشي المحلات العامة سويا ! ودهشت لما عرفت أنها تدخن ، وقالت إنها اقتبست هذه العادة عن أمها . وعرفت أيضا أنها تميل إلي الخمر ولم يخل حديثها من شذوذ ، من جرأة ... جرأة ؟ بل وقاحة سافرة مغترة ، ولكنى لم أستطع أن أعترف لنفسي بهذا في
ذلك الحين . . كنت قد قطعت شوطا كبيرا من الطريق ، وكان عقلي فى غفوة هائلة لا يوقظه منها قصف المدافع . كنت أفكر فيها تفكيرا غامضا مشوشا مضطربا لاينتهي إلي شئ ، وكنت أخلق لنفسي ولها المبررات ، وأقرأ الشعر الماجن الخليع لأمضي في تخدير عقلي ... هل فعلت منى أكثر من أنها عبرت بصراحة عن طبيعة جنسها كما تفعل أي فتاة حديثة ؟ ألا نشكر لها هذه الصراحة ؟ . كنت أغتفر لها كل شئ والتمس لها العذر في أسلوب نشأتها أو الوسط الذي تأثرت به ! ولكني كنت واثقا أني سأخلق فيها مخلوفا جديدا مبرأ من كثير من النقائص والعيوب ، والحب - كما يقولون - يفعل المعجزات .
إن الحب - يا صديقي - يكسب كل قضاياه من العقل دائما مهما كانت أدلته واهية ملفقة . . والعقل المسكين يخسر دائما مهما كان الحق في جانبه . . ولكنه يعرف كيف ينتقم في النهاية . إنه ينتظر حتى تحل الكارثة ، وعندئذ يقف باسما في سخرية مرة ، ويصب في آذاننا من الاستهزاء والتقريع والاستصغار أحاديث تحرق الصخر الجامد ... عندئذ - عندئذ فقط - يغرقنا الندم وندفع ثمن الحب دموعا وآلاما وندما .
قضينا عشرة أيام في القاهرة ، وسافرت هي إلى الإسكندرية ، وسافرت أنا إلى مقر عملى ، ولحقت بى بعد أيام ... وعادت إلي حياتنا سيرتها الأولى ... ومضت عدة أشهر أخرى ثم اتفقنا على أن نلتقي في مدينة قريبة ...
والتقينا ، وما كنت أخشى أن يحدث في القاهرة حدث هناك - وقضينا ليلة في أحد الفنادق الفاخرة - ولا أدري كيف استطاعت أن تسخر من والديها وتبيت خارج المنزل ، ولكنها كانت فخورا مزهوة ببراعتها وقدرتها على التعمية والتضليل .
إن مني لا تزال عذراء ، أو على الأقل كانت كذلك
عند ما قطعت صلتى بها ... ولكنها كانت ليلة حمراء ماجنة ، إن هذه الفتاة العذراء تعرف أشياء كثيرة لا تعرفها النساء المتزوجات .
وكان قد نمى إلي بعض إشاعات عن علاقتها بشخص ما ... وحدثتها في ذلك حديثا رفيقا رقيقا فاربد وجهها وبكت ؛ إن المرء منا لتمر به أزمات عاصفة تزلزل كيانه ، يتوق أثناءها إلى أن يذرف قليلا من الدموع للتنفيس عن روحه ، ولكنه لا يجد الدموع ، ويفزع إلى الله ضارعا أن يمن عليه بنعمة البكاء فلا يستجيب ولكن المرأة يا صديقي تسكب من مآقيها ما تشاء حين تشاء ؛ وأي دموع ... ؟ وزال من نفسي كل أثر للشك وعرفت أن مني مخلصة لي .
لو اطلعت على رسائلنا ! لو رأيت كيف كنت أذيب روحي وأسطرها كلمات رقيقة أبعث بها إليها ، لو عرفت أي أحلام همت بها ، وكم من صفحات طوال كتبت - وكتبت هي - عن حياتنا في المستقبل ، عن المنزل والأثاث وكل شئ ... بل عن ميزانية الأسرة وحدود السهر خارج المنزل ... أه لو عرفت ...
ولكن ما فى رسائلها من تباين في الأسلوب والمعاني أثار بعض شكوكي ... كنت أعجب كيف تجتمع البلاغة والرقة مع التفاهة والهذر على صفحة واحدة ! وسألتها : هل تنقل بعض ما في رسائلها من ؟ كتب فأقسمت غاضبة أنها لا تفعل ذلك ... وآمنت بالقسم العظيم ...
لم تمض أيام حتى فوجئت بخبر نقل والدها ... بالحزن والأسى ! استقبلت أياما سودا دامعة وليالي لم أذق فيها طعم النوم ؛ وأعترف لك أني بعد هذه الليلة المجنونة التي قضيتها معها لم أعد أفكر فيها إلا تفكيرا شهوانيا محضا ، أصبحت نفسي مسرحا لصراع عاصف بين الحقائق والخيالات ... ومع كل هذا لم أكن قد استطعت بعد أن أعترف لنفسي أن مني لم تخلق لي .
ثم بدأ الستار يرتفع شيئا فشيئا
عرفت أن البعض يعرفون سر علاقتنا ، وكانوا يقحمون ذكرها للإساءة إلى ، ولكني كنت أتجاهل كل شئ ، ألوذ بتلك الكبرياء الصامتة التي تعرفها في جيدا . . ثم عرفت أن الناس يعرفون أشياء كثيرة عن منى ، ولكن انقباضى عنهم وعزلتي لم يتيحا لي فرصة سماع أى شئ .
وأخيرا سمعت وعرفت . عرفت أن الزمن لم يكن قد أصابته نوبة كرم مفاجئة ، فمنحني في يسر وسهولة المرأة التي ظللت أنتظرها عدة سنين ، بل أراد أن يسخر مني فنصب لي شركا .
ومضت السنون وأنا أهيل التراب على الماضي لأمحو ذكراه ، ولكنى لم أتخلص من آثاره بعد ...
كانت مني تذهب إلي دار البريد كل يوم لتتسلم رسائلها ، وكان بينها وبين موظف البريد صلة طيبة ...
وكثيرا ما كانت تتصل تليفونيا ببلاد عديدة ، لأن منى لها أصدقاء وأحباب في كل مدينة عاش فيها والدها ! وكثيرا ما كان الموظف الذي يمهد لها سبيل الاتصال يقبض ثمن هذه المواصلات من مداعبة جسمها . وكانت مني على صلة جبارة بطبيب الرمد بالبلدة ، وتتردد عليه كثيرا " لتمس " عينيها محافظة على جمالها : وذكرني حديث العيون بشيء طريف ، فقد اعترفت لي عندما سألتها كيف أحبتني ، فقالت : إن عيني جميلتان ... برغم الزجاج السميك الذي يغطيهما !
وحدث أن سافرت مرة إلى أحد البلدان المجاورة إجابة لدعوة صديق من عهد الدراسة ، وأدهشني كثيرا أنه سألني عن " مني " وحدثني عن علاقته بها ، وأطلعني على بعض صورها . وقد كتبت خلفها - كما فعلت معي - " اذكرني كما أذكرك إلي الأبد " .
لم يدر بخلدي مطلقا أن المرأة يمكنها أن تكون
خدعة ضخمة إلى هذا الحد المروع ، وعرفت أنى كنت طفلا كبيرا ساذجا . وتضاءلت في عين نفسى .
إن مني يا صديقي درست سوق الرجال ، وخبرت أساليبها ، وليس من السهل عليك أن تهتك القناع الزائف عن حقيقة نفسها أو حتى حقيقة مظهرها إن هذا المظهر الفاخر الذي تبدو فيه لا يدفع ثمنه إلا أحبابها - وقد ساهمت فى ذلك ؛ ولها في ذلك أساليب تدل على منتهي الدهاء ، ولكنه الدهاء المستور الذي يرتدي ثوب البساطة .. إنها تنتهز فرصة الثقة العمياء بها ، وتوحى إليك بما تطلبه ، قد لا تطالبك أبدا ، ولكنها تخلق الظروف التي تملي عليك ما يجب أن تفعله .. وأي عاشق لا يلتمس الفرصة كي يثبت إخلاصه واستعداده للتضحية ؟
إن مخلفات غرامها لا تزال عندي ، ولعلك تأتي إلي لتري بعينيك .. عندي عشرات وعشرات من رسائلها ، وعدة صور ، ومنديل .. منديل صغير ملوث " بالأحمر " : كنت أزيل به ما يعلق بشفتي من خضاب شفتيها بعد قبلات جنونية تحت ستار الظلام على شاطئ النيل أو في خبايا الأشجار .
أتدري كيف كانت تكتب رسائلها تلك التى أقسمت أنها لم تكن تنقل من كتب ؟ كانت تنقلها من رسائل عشاقها وأحبابها الآخرين ... كم وددت لو أحرق هذه الرسائل لأتخلص من شبحها المؤلم ، ولكن رسائلي لا تزال لديها ، وأخشي أن تستغلها يوما في الانتقام مني ... لأن المرأة لا تغتفر . كم أتوق إلي استرداد هذه الرسائل . إنها عصارة روحي وخلاصة دمي وأحلامي .
... بعد أن عرفت كل شئ عن منى كف ذهني عن التفكير فيها ، بعد أن ضحيت في سبيلها ، وفي سبيل تحقيق رغباتها ونزواتها بواجبات مقدسة ، ولم أراسلها بعد رحيلها ، رغم إلحاح رسائلها على
ولم تكن هذه الخاتمة ... فقد حدث لي بسببها مشكلات كثيرة لا داعي لذكرها .
ولكني استفدت بقدر الخسارة ، إن الحقائق تقحم نفسها تحت أعيننا ، ولكننا نتعامى ، وبذلك نجرح كبرياء الحياة ونصيبها في عزة نفسها ، إننا نتغاضى عن حقيقتها كأنها لا ترضينا وتضع على وجهها من أوهامنا وخيالاتنا نقابا مزخرف الألوان ، فتسخر منا في صمت ، ولا تلبث أن تنزع عن وجهها ذلك النقاب الزائف وتقهقه ساخرة . . ثم تنتقم ...
