الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 401الرجوع إلى "الثقافة"

أحلام عابرة, عنترة بن شداد

Share

جاء دور هذه القصة متأخرا في قراءاني لسبب بسيط جدا هو أبي - غالبا - لا أقرأ للأستاذ الفاضل ) أبي حديد ( إلا علي مهل وفراغ نوعا ما ليتسنى لي بعض النقاد إلي الخصائص التي تسكمن دائما وراء بساطته ودعابته واحسب ابي باتباع هذا النهج في هذه القصة بالذات - لأنها قصة قديمة معروفة - قد استطعت أكثر من ذي قبل اتعرف إلي اشخاصها جيدا وأسير أفوارهم واتفهم مشاربهم واندمج معهم على اختلاف الوانهم وإنماطهم ، فأنسيت لشيخ القبيلة ) شداد ( إذ يقول : إن الحرية تشتري ولا توهب والعبد هو الذي يتمنى وهو قاعدة واعجب بحكمة ) النعمان ( وحدكته إذ يصير

على نهجم ( عنترة ) الأعزل الأسير عليه وهو في مجلسه المحتشد الموقر ، حتى إذا فطن إلي حسن طوبته وندرة بطولته استضافه وأكرمه بعد أن كاد يسفك دمه . وأشفق على (مالك بن فرادة ) إذ ضاقت به الحياة في قومه منذ سمع المماليك ينشدون غزل ( عنترة ) في ابنته ( عبلة)  فلم يجد سفرا من الرحيل بأهله من مواطنهم العزيزة عليهم إلي أرض شيبان . وأستحر من ( شيبوب) إذ يترك أخاء حامي القبيلة كلها ) عنترة ( وقد أحاطت به جنود ) النعمان ( الجبارة ، ثم يولي هاربا جبانا لينجو بنفسه . وأحزن على ) تربيتة( إذ نسمع ابنها ) عنترة ( يقول لها : " إنك تكذبين يا امرأة " بينها هي كانت تقول له : " أي ولدي الحبيب فداك نفسي ، ولو استطعت أن أذهب عنك الحزن بفقد عيني لكان أحب شيء لدي أن أفقد عيني " وأخرج بين الفتيات إذ يرقصن أو يغنين في كل حين يمكن أن يجوز فيه رقص أو عناء . فيرقصن منهكمات على ) عبلة ( أن أحبها عبدها ) عنترة ( وبغنين مهنئات إياها بوشك زفافها الذي لم يتم إلي ) عمارة بن زياد ( وبرقصن وبغنين كذلك فرحات بزفافها بعدئد إلى ) عنترة ( . وأميل مع ) عبلة ( إذ نميل علي حوض الماء لنري صورتها وتصلح من شعرها . . وأثور مثل ) عنترة ( ثورة عنيفة على العبودية إذ يسمع كأنما النجوم تصبح به : أيها العبد لم جئت إلى هذه الأرض ؟ وإذ يسمع أخاه يقول له : " لكن قضاءك ظلم ولست بأول رجل ظلمته الحياة وإذ يجيب أخاه قائلا : " لا أريد على أن أكون عبدا في نظر هؤلاء ، ولا استطيع أن أمحو صورتي التي تقع في عيونهم وفي قلوبهم ، ولكني أملك شيئا واحدا : أملك نفسي التي لا ترضي ،

ذلك بعض ما يستفيده المتمهل من قراءة ) أبي حديد ( في قصته الحافلة . وصحيح أن التمهل واجب في كل قراءة ، غير أن الأولى بالتمهل حبالهم أولئك الذين يخفون أكثر مما يبدون، وهم قيل كل شئ عندهم ما لابد أن يقال وما لابد

ان يستتر في نفس الوقت ولو على غير " من يلزم من القراء " !

وغني عن البيان أني لا أقصد بالتمهل مجرد التلكؤ ، وإنما اقصد الإمعان والدقة ، وإلا فانا مع التزام التمهل قد اتحمث قراءة القصة كلها في جلسة واحدة . وبالطبع لا أنكر أن بعض ذلك راجع إلي صغر حجمها من جهة ثم إلى توفر عناصر التشويق والتنسيق والطرافة من جهة اخري ؛ فهذا وذاك حفزاني إلي الانسياق بحيث لم اتوقف عن الاستطراد الذهني أكثر من مرتين :

المرة الأولى عند ما كان ) عنترة ( يناقش أمه حول حقيقة انتسابه إلى ) شداد ( شيخ القبيلة ، إذ قال لها في ختام المناقشة : " لقد عطف قلبي على هذا الرجل بعد وصفك فاني احس له رقة " بينما كان يقول لها في أول المناقشة : ألا كفي عن ذكر اسمه فإنه اشد الأسماء كراهة عندي !! كان يجوز أن يستقيم هذا لو أن أمه لم تنبئه بالأمر من قبل وثابت من السياق انها شرحته له قبل ذلك مرارا بدليل قولها وهي تحاوره : " إنه أبوك يا ولدي وقد طالما حدثتك بقصته .

والمرة الثانية عند ما عاد من بلاد ) النعمان ( - وكان ذهابه إليها للحصول على مهر ) عبلة ( - إذ علم من اخيه أنها ستزف بعد ثلاثة أيام لغريمه بعد ما يئس الجميع من عودته هو . فاعتراه اليأس وعول علي أن يضرب في فجاج الصحراء شاردا عا كفا على الخمر إلى هنا والسبك جيد والوصف رائع ومشوق كالمعهود . غير ان الاستاذ المؤلف يتبع هذا بشرح واف لشجون ) عنترة ( واشتداد هيامه ساعتئذ . ولا بأس بذلك مطلقا لولا انه بتوسع بلا مبرر ظاهر في نواح ربما لا يصح التوسع فيها على هذا النحو ، كان يقول : " وكأنما كان يشعر في قرارة قلبه اطمئنا إلي أنها لن نتزوج ولن نرضي بأن تزف إلى غيره وانها سوف تعود إليه معتذرة ؛ باكية هذا وأكثر منه محتمل جسدا ان يجول في خاطر ) عنترة ( مهما كان

مبلغه من اليأس ، ولكن هل كان ينبغي ان يكشف هكذا للقارئ قبل حدوثه ؟ مثل هذه " التفصيلات " ليس من الضروري سردها لاسيما وقد حدثت بالضبط بعد ذلك وكان يمكن بل يستحسن الاستغناء عنها إطلاقا أو الإيماء إليها إيماء عابرا خفيفا

أما بخلاف هاتين المرتين فلم أتوقف إلا للاستعادة المتعة إعجابا بالمذهب القصصى وبالحوار وبالتنسيق جميعا . وبصفة خاصة أشير إلى الفصل الخامس فهو غاية في الروعة والحيوية

ولكم حمدت للأستاذ ( أبي حديد) نهجه المعتدل في خلق بطله ؛ فقد كان يستطيع ان يسويه ملكا أو شيطانا أو شاذا خارقا للعادة ؛ لكنه اثر - وهو الأديب المتمكن أن يبقى عليه آدميا معقولا فيه شتى الموطف البشرية : يحب حتي يتهالك وبغضب حتي يسبب أمه . ويتكبر حتي يمن علي سيده ان حارب في سبيله وذاد عن حريته ويتنشى حتى يترك الأعداء يقضون دعائم قومه وينزعون أوتادهم ويدوسون أطفالهم ونساءهم . ويتحين الفرصة بمهارة وقسوة حتى ليرفض ان يجير قبيلة وقد استجاروه إلا إذا اعترفوا له أولا بحريته ويضعف حتى ليقول لعشيقته : " أنا بين يديك أضعف من فرح اليمام وأخف من ريشة في الهواء " وهكذا . هذه " الواقعية " كما يسمعها المذهب الفصي الحديث ، هي طابع القصة المتازة أولا وقبل كل شئ

والأسلوب . الأسلوب عظيم بلا جدال وبودي لو يتصفح المؤلف البارع النسخة التى بين يدي ؛ إذا سيجد اني وضعت خطوطا بالغة الكثرة بالقلم الأحمر تحت اللفتات الرائعة والتراكيب الخلابة ، كقوله مثلا وهو يصف وجه  (عنترة ) الأسود الخشن : " وأنفه الآقني ينحدر إلى فم قوي " فكل لفظ في مثل هذا التركيب يدل علي فن تصويري عريق . . كما سيجد اني وضعت خطوطا

أخرى - وسيري أنها قليلة بل نادرة - تحت التعبيرات التي خيل إلى أنها ليست في مستواء الممتاز . وهكذا سيمضي حي يأتي إلي آخر مشهد من مشاهد القصة وهو عناق بين ) عنترة ( و ) عبلة ( فسيجد أني وضعت خطا ثقيلا جدا تحت الفظ " ليد " في قوله " ثم ضمها بين ذراعيه فلبدت في صدره ، لان هذا اللفظ وإن كان صحيحا فسيحا لغة ومعنى إلا أني أحس بأنه غير جذاب وأظن أن اصطناعه هنا وفي هذا المشهد بالذات اصطناع لعله غير صريح

والشئ الذي أخذه علي هذه القصة من الناحية الشكلية هو إخراجها في وقتنا الحاضر الذي تصطرع فيه الأمم العاتية ابتغاء السيادة بالقوة ، وتجاهد فيه الشعوب

الهضومة ابتغاء السيادة بالحق . وذلك لأنها نموذج واضح لسيادة القوة فقد ظل ) عنترة ( بين القبيلة " عبدا حتى إذا انتصروا علي قبيلة اخرى بقوته وجبروته أقاموا له الولائم ، فإذا دارت الكؤوس كان هو " أول " الشاربين . . وإذا انشدت الأشعار كان شعره على كل لسان . . وإذا أقبلت الفتيات إلي حلقات الرقص كان هتافهن باسمه .

ونحن نمقت العبودية والاستعباد وعلى الأقل لا يضيرنا ان يزداد الأحرار واحدا ، ولكن يضيرنا حقا ان يكون الممول في التحرر بل في السيادة على السيف والبطش والبطولة الجسمانية

اشترك في نشرتنا البريدية