أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
ولست أدري كيف كان يطمع بلنت في أن يقنع غلادستون بالعطف على قضية الأحرار في مصر، وقد كان رجال السياسة في إنجلترا يسعون ما وسعهم السعي إلى الاستيلاء على مصر منذ أن التقى البحران، وهو إنجليزي لا تخفى عليه نيات الإنجليز وأساليبهم تجاه الشعوب الشرقية؟
إني أفهم أن تجوز ألاعيب السياسة الإنجليزية على أولئك الإغفال من أهل الشرق الذين أذهلهم ما هدهم من ضعف عن الحقائق فصدقوا الباطل وهم يجهلون، أو الذين غرتهم بأوطانهم زخارف العيش ووساوس النفس فانغمسوا في الباطل وهم يعلمون؛ أما أن تجوز الأباطيل على إنجليزي عليم بالسياسة وأوضاعها فهذا ما لا أفهمه، ولذلك فلولا ما تأكد لدى من إخلاص مستر بلنت
لقضية الوطنيين حتى قضى الاحتلال فيها قضاءه لارتبت في نياته كما أرتاب في نيات الساسة من أهل بلاده أبداً.
وكأن القدر يأبى إلا أن يظهر بين حين وآخر من الإنجليز أنفسهم من لا تطغى على ضمائرهم خدع السياسة، أو يشوه الجانب الإنساني من نفوسهم أوضار العيش، فيكون من هؤلاء حجة على المرائين الماكرين من بني قومهم، ويكونون بينهم شهوداً من أهلهم عليهم تنبعث أصواتهم مجلجلة فتملأ أسماع أولئك الساسة الذين يوصدون أسماعهم دون أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها مهما بلغ من قوة انبعاثها؛ ومن هؤلاء الأحرار روثستين وبلنت ومن حذا حذوهما.
قدر على شريف أن يلاقي عنتاً شديداً من مسلك الخديو من أول الأمر! وأخذت وزارته تشق طريقها في حذر شديد بين تلك الصعاب القائمة، وكان أعظمها دسائس الأجانب وتوثبهم في ذلك الوقت، ولقد هال هؤلاء الأجانب انبعاث الروح الوطنية إذ رأوا فيها بوادر القضاء على ما يمنون به أنفسهم في مصر. وسارت سفينة الحكم بين هذه التيارات المختلفة، تنكر الخديو لقضية الحرية ونشاط المدافعين عن هذه القضية، وتربص الدولتين بالحركة جميعاً.
وكان طبيعياً أن تفيق البلاد على صيحة عرابي، وأن تنطلق النفوس من عقالها، فلقد أتيح للناس قدر من الحرية وهم إليها عطاش تتحرق نفوسهم؛ فبدأ الوطنيون يعبرون عما احتبس في صدورهم منذ عزل إسماعيل، وعادت الصحف تعبر عن مساوئ التدخل الأوربي وتندد بأساليب الدخلاء في مصر الذين سلبوها أقواتها بالحيلة وحالوا بينها وبين أمانيها زمناً بالإرهاب والبطش؛ والذين كان يحتل الكثيرون منهم الوظائف المصرية الخطيرة ويؤجرون على أعمالهم فيها إن كان ثمة لهم فيها من أعمال أجوراً غالية من خزانة مصر الفقيرة.
وأخذت جريدة الطيف، وكان يصدرها عبد الله نديم، تقاوم البهرج الزائف الذي بدأ يلتمع في مصر فيخطف سرابه أبصار الجاهلين، والذي سماه الأوربيون مدنية ليكون لهم منه سلاح من طراز آخر يضيفونه إلى أسلحة الدس والكيد التي سلطوها على البلاد؛ وحمل الكرام الكاتبون على المراقص وحانات الخمور ودور المجون ومواخير الدعارة وغيرها من مباءات الفسوق الذي كان يذيعها في مصر أولئك الذين جعلوا من مبررات تدخلهم في شئون البلاد رغبتهم في هداية أهلها إلى المدنية!
وكان بيت عرابي قبل أن يعين في منصبه الجديد مقصد الناس من جميع الطبقات والهيئات الوطنيون والأجانب في ذلك سواء؛ وكانت شهرة عرابي تطغى على شهرة جميع الرجال من حوله حتى البارودي وشريف وكان لهما الحكم والجاه؛ والحق لقد اتجهت الأنظار إلى عرابي منذ يوم عابدين وأصبح من المستحيل أن يعتزل السياسة أو تعتزله السياسة، وقد خطا في سبيلها تلك الخطوة الجريئة التي كان النجاح حليفها.
أخذنا على عرابي أنه حينما طلب إليه أن يخرج من القاهرة بفرقته اشترط أن يكون ذلك بعد صدور أمر الخديو بدعوة مجلس شورى النواب، ونعود فنأخذ عليه أنه تدخل في الأساس الذي يجتمع عليه المجلس. فكان شريف يرى أن يكون ذلك وفق لائحة عام ١٨٦٦، أي أول لائحة للمجلس على أن يقوم المجلس بالتعاون مع مجلس الوزراء بوضع لائحة جديدة تجعل منه مجلساً نيابياً يلائم حال البلاد؛ وبعد معارضة شديدة وافق عرابي على ذلك.
ثم تدخل عرابي في مسألة أخرى وهي الميزانية المخصصة لإبلاغ الجيش ثمانية عشر ألفاً من الجند، فلقد أبدت المراقبة المالية عدم موافقتها على المبلغ اللازم كله، وبعد أخذ ورد وافق عرابي على ما تيسر دفعه من هذا المبلغ على أن يقوم بتوفير الباقي من وجوه أخرى.
لقد قطع عرابي على نفسه عهداً كما أسلفنا ألا يتدخل في شؤون الحكومة القائمة وعلى هذا الأساس قبل شريف رياسة الوزارة؛ لذلك نرى أن تدخل عرابي في الأمور التي ذكرناها يوجب ملامته ولن يَشفع له أنه كان يطلب الخير ولن يخفف من اللوم عليه أنه رضى آخر الأمر ولم يسبب للحكومة عنتاً، فهذه الأمور من اختصاص الحكومة وهي لن تمس كما نرى جوهر قضية البلاد.
لم ين أعداء هذه الحركة الوليدة عن مناوئتها في مصر وخارج مصر؛ والى هذه المناوئة يرجع سبب جموح هذه الحركة والتوائها على شريف ثم خروجها آخر الأمر من يده، ولو أنه قدر لمصر في تلك الأيام العصيبة أن آزر الخديو كبير وزرائه ضد الدسائس التي كانت تحاك للبلاد لأمكن شريف أن يسير بالسفينة إلى شاطئ السلامة، ولكن الخديو وا أسفاه لم يكتف بعدم المؤازرة بل لقد التجأ إلى الأجانب فكان هذا العمل من جانبه أقوى مساعد على نجاح سياستهم. . .
وكان أوكلند كلفن العضو الإنجليزي في لجنة المراقبة المالية،
وإدوارد مالت قنصل إنجلترا في مصر هما اللذان يحكمان الشباك حول الخديو، ولقد كانت لهما سياسة ماهرة غادرة تدور على أسس أحكم وضعها أولهما وفق ما تعلم في الهند؛ فهما يظهران الولاء الخديو فيدسان له بذلك السم في الملق، ثم هما يخوفانه أبداً من تركيا والعرابيين جميعاً فيذران قلبه هواءاً، وهما بعد ذلك يضللان الرأي العام في بلادهما ويرسلان التقارير السرية بما يجب أن يتبع إلى وزير الخارجية.
وكانت وسيلتهما في تضليل ذلك الرأي العام؛ السيطرة على الصحف بالسيطرة على مراسليها، وكان كلفن نفسه مراسلاً لإحدى الصحف الهامة، وكان مراسل التيمس يعتمد عليه في استقاء المعلومات، أما شركتا روتر وهافاس، فقد كان يعطى لكل منهما ألف جنيه في العام من خزانة مصر! وقل أن نصادف في تاريخ السياسة عملاً أشد فجوراً من أن تحارب قضية شعب بنقود من خزانته!
وكانت الحركة الوطنية تلاقى أبلغ الكيد خارج مصر من جانب الصحافة أول الأمر، إلى أن منيت بعد ذلك بالتدخل الرسمي الفاجر، الذي لم يدع في تاريخ العالم عرفاً إلا خرج عليه، ولا قاعدة ألا سخر منها وحطمها تحطيماً.
أخذ محررو الصحف في إنجلترا وفرنسا ينددون بثورة مصر ويسخرون من نهضة مصر، ولو أنهم كانوا يحترمون أنفسهم حقاً، أو يحترمون المبادئ التي نادت بها بلادهما لمنعهم ذلك عما فعلوه. . .
وماذا جنت مصر يومئذ حتى تستقبل أوربا حركتها بأسوأ ما تستقبل به الحركات؟ ألم تجر في أوربا الدماء في سبيل تلك المبادئ التي كان ينادى بها المصريون؟ وكيف تكون نغماتها عذبة مشتهاة إذا تغنى بها أهل تلك الشعوب، ثم تكون ممجوجة مملولة إذا هتف بها الشرقيون؟
هذا شعب ينفض عنه غبار القرون، ويخطو نحو الحرية كما خطت أوربا، ثم هو يذب الأجانب عن قوميته، وقد ثقلوا عليها بامتيازاتهم الأثيمة الظالمة ثقل الحشرات والهوام، فماذا كانت ترى أوربا في هذا من معاني الفوضى والهمجية ولم يصحب حركة المصريين عدوان على أولئك الأجانب ما كانوا يلاقونه منهم من عنت وإفساد؟ ألا إنها السياسة تقلب عرف الناس نكراً، وتجعل المبادئ التي ينادى بها دعاة الإنسانية في نظر
الساسة أحلاماً لا تجد لها مستقراً إلا في رؤوس الحمقى من الفلاسفة ورؤوس الأغرار من مصدقيهم.
أما السياسة فقد كانوا لا يتوانون عن الكيد، ولا يفتر لهم سعى في تلمس السبيل التي يستولون بها على الفريسة، وكان موقف إنجلترا وفرنسا من مصر ينطوي على كثير من المعاني التي تبعث على الألم والضحك معاً، وكم من المآسي ما تضحك منه النفوس ولكنه ضحك المرارة التي لن يبلغ الدمع مبلغها.
وكان موقف الدولتين كموقف رجلين يطمعان في استلاب شيء وكل منهما يريده لنفسه دون الآخر ولكنه يموه على صاحبه، وكل من الرجلين يفهم حق الفهم أن الآخر يدرك حقيقة موقفه منه، ولكنهما على الرغم من ذلك يتغابيان ويضللان!
هذا هو موقف الدولتين على مسرح السياسة في تلك الأيام، ولكم شهد المتفرجون يومئذ من الأساليب الميكيافيلية وأوضاعها، ولكم شهدوا من أساليب غيرها لو قرنت بها الأولى لكانت منها كالحسنات، ثم يسدل الستار والمتفرجون من أهل مصر لا يملكون أن ينطقوا بكلمة استهجان لما رأوا، بل لقد فرض عليهم أن ينظموا عقود المدح وإلا عد سكوتهم جحوداً وعناداً، وأي شيء أوجع وأنكى من أن يرغم شعب على تقبيل الأيدي التي استلبته حقوقه والأغلال التي دارت حول عنقه.
ويظهر أول شاهد عل السياسة الإنجليزية في تقرير كتبه كلفن بعد الثورة بعشرة أيام جاء فيه: (أرى أن ليست الحال الحاضرة بطبيعتها إلا هدنة، وأن ما وصلنا إليه من التسوية ليعطينا مهلة نستجم فيها ونلم فيها بالقوى التي تعمل حولنا ونسعى في الاستفادة منها أو القضاء عليها)1.
وليس في هذه العبارة أول شاهد على السياسة الإنجليزية فحسب، بل إن فيها ملخص تلك السياسة؛ فستتربص إنجلترا للحركة حتى يحين الوقت وحتى تستطيع أن تعمل بمفردها دون فرنسا. . .
وكان شريف يقضاً يفطن إلى دقة الموقف ويدرك مرامي السياسة الإنجليزية وأساليبها؛ ولذلك كان لا يفتأ يحض أنصار الحركة الوطنية على اتباع الحكمة ومجانبة الشطط حتى لا يكون من أعمالهم أو أقوالهم ما تسيء أوربا فهمه فتسوء بذلك العاقبة. وأخذ العقلاء من رجال الحركة الوطنية يعاونون شريفاً على
تثبيت قواعد سياسته، وكان من أثر ذلك أن تنازل عرابي عن رأيه في الموقفين السالف ذكرهما، وكان من أثره أيضاً أن خففت الصحف من لهجتها وكفكفت من غلوائها؛ ولقد كان للأمام محمد عبده فضل كبير في توجيه العناصر الوطنية نحو هذا المسلك الحكيم. . .
ولكن الأفق ما لبث أن تجمعت في حواشيه الغيوم وأحست السفينة بوادر عاصفة قوية ما عتمت أن هبت شديدة عاتية نفد لها صبر الربان أو كاد، وتلك هي أزمة الميزانية الشهيرة.
فرغ شريف من إعداد اللائحة الجديدة للمجلس النيابي ثم عرضها على النواب؛ وشد ما كانت دهشتهم أن رأوا شريف يقرر فيها ألا يكون من اختصاص المجلس عند النظر في الميزانية البحث في جزية الباب العالي والدين العام، وكل ما فرضه قانون التصفية على الخزانة من نفقات.
وهال النواب وأغضبهم أن يكون ذلك باتفاق شريف مع المراقبين، فرفضوا ذلك وأصروا على أن ينظروا الميزانية كاملة، واعتبروا ذلك من الحقوق التي لا تقبل مساومة مهما يكن من الأمر. وأخذ شريف المسألة من الناحية العملية، فلم يشايع النواب في نظرياتهم، وأخذ يطلب إليهم الأنات والحذر ويريهم عاقبة التطرف والتعجل، ولكنهم لم يلتفتوا اليه، وظهرت في الوزارة نفسها بوادر التفكك. فلقد كان البارودي يطمع في الحكم بعد شريف فكان لذلك يشجع الوطنيين في موقفهم سراً.
وكان سلطان باشا رئيس المجلس ينقم على شريف أن لم يسلكه في سلك وزارته فوجد في الخلاف القائم فرصة ينال بها من شريف فسرعان ما اتهم شريف بالاعتدال، ثم حمل اعتداله على الجبن والضعف. . . ثم بلغ الأمر إلى اتهامه بالخيانة.
ووقف الربان يواجه العاصفة في صبر وجلد، وهو يؤمل أن يجنح النواب إلى السلام والاعتدال، ونشط الشيخ محمد عبده في معونة شريف، ومما ذكره في هذا الصدد قوله: (لقد ظللنا ننتظر حريتنا مئات السنين، أفيصعب علينا أن ننتظرها بضعة شهور أخرى؟) .
ثم بدي على الأفق بعد حين ما يبشر بقرب انكشاف الغمة! فلقد أخذ النواب يتدبرون عاقبة هذا التشدد، وبدأ العقل يتغلب شيئاً فشيئاً على العاطفة. (يتبع)

