الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 253الرجوع إلى "الثقافة"

أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة

Share

لاحظ الطفل ، وأمعن النظر فى تصرفاته ، وراقب البواعث على حركاته وسكناته ، تخرج بنتيجة حتمية ، وهى أنه أنانى مفرط الأنانية ، يرى أن أهم ما فى الوجود شخصه ، وكل شئ حوله يجب أن يكون له ؛ ما يصدر عنه من أعمال فإما هى لجسمه ، وللذة يلتذها جسمه ، ليس يهمه أى شئ يتصل بغير شخصه ، لا يعنيه من أمه إلا أن ثديها وعاء للبنه ؛ كل ما له من عمل ، وكل ما له من شعور ، وكل ما له من فكر ، وكل ما له من رغبات ، فـإنما هى موجهة نحو ذاته ؛ فإذا أحس فراغا من الزمن ليس فيه شئ مما يشتهى ويلتذ بكى ؛ لو كلف أن يرسم خريطة العالم كما يرى ، واستطاع ذلك ، لرسم شخصه فقط ، وكان هو العالم كله ، وهو العالم وحده . وما عداه من شئ فلخدمته .

لاحظه بعد ذلك وهو ينمو ، نجده يتحول من (( أنا )) قليلا قليلا إلى (( نحن )) شيئا فشيئا ، فهو يبدأ يشعر بأسرته بجانب شخصه ، ثم بتلاميذ مدرسته بجانب نفسه ، ويتعلم دروس الأخذ والإعطاء بعد أن كان درسه الوحيد هو الأخذ ، ويضم إلى العمل لشخصه العمل لغيره . ويعتاد ألا يعمل فقط ما يحب ، بل يعمل أيضا ما يجب ، ويعمل ما تقتضيه التقاليد ، ويعمل خوف الاستهجان أو العقوبة أو نحو ذلك - يتعلم ذلك كله فى أسرته وفى مدرسته ، وفى ألعابه وفى شارعه ؛ ويتولد فيه شعور وتفكير ورغبات للعمل للغير ، كما تولدت فيه من قبل هذه الأمور للعمل لشخصه .

ويرقى فيه الشعور ب (( نحن )) إذا اتسع أفقه فى الحياة العامة ، وخرج من المدرسة وتولى عملا ، وعامل

الناس وتبادل معهم المنافع والمصالح ، فيشعر بأن هناك أناسا غير أسرته وغير مدرسته وغير معارفه ، وأنه مرتبط ببعضهم فى التعامل ، ويشعر بأن هناك مسئولية ملقاة على عاتقه نحو من يعمل معهم ، وأنه خاضع لقوانين البلاد ، وله روابط بقومه وأهل دينه ونحو ذلك ، كما يشعر أنه يجب عليه العمل ، لا كما يحب كالطفل ، ولا طاعة للتقاليد أو خوفا من العقوبة كالفتى ، ولكن ليحصل رزقه ، يقوت به نفسه أو أهله أو من يحمل عبئهم ؛ وهكذا نراه يبعد بعض الشئ من (( أنا )) ويقرب من (( نحن )) ولكن فى حدود ضيقة معينة .

فإذا نحن سمونا لدراسة (( الرجال )) وعظماء الناس ، رأينا استغراقا وعمقا فى (( نحن )) , وضمورا فى (( أنا )) . رأينا الرجل العظيم الناضج يصل إلى منزلة يرى معها أن لا قيمة لحياته إلا إذا ارتبطت بحياة الناس والعمل لإسعادهم ؛ لا يقتصر على علاقاته الطيبة بمن حوله فى الأعمال العادية ، ولكن يضع نصب عينه العمل لترقية الناس روحيا ونفسيا وماديا ؛ لا يرى أن مسئوليته هى نحو أسرته فقط ، ولا أصدقائه فقط ، ولا قريته أو مدينته فقط ، ولكن لأمته خاصة ، وللإنسانية عامة إن وسعه الجهد والكفاية ؛ هو واسع النظر ، عميق الفهم ، رحب الصدر ، متسامح أمام ما يشل العقل من العصبية الوطنية والدينية والخلافات الحزبية ؛ يختبر حاجات الناس وأسباب شقائهم فى الناحية التى هو معد لها ، ثم يوجه إرادته لرفع الشقاء عنهم ، وجلب السعادة لهم ما أمكن ، ويحمل مسئولية ذلك فى لذة وسرور وتضحية ، ولا بأس إن كان فقيرا ، ولا بأس إن لم تنبته أسرة أرستقراطية ، ولا بأس إن لم يتسلح بقوة ، فهو يشعر أن نيل غرضه قوة فوق قوة المال ، وفوق الأسرة النبيلة ، وفوق أسلحة الناس .

إذا كانت جماهير الناس يعملون للأجر ، ويقومون العمل بالمال ، فإن أعطوا كثيرا عملوا كثيرا ، وإن أعطوا قليلا عملوا قليلا ، ويفاضلون بين عمل وعمل بقدر ما يدر من ربح ، فإن هؤلاء العظماء يعملون لأنهم يلذهم العمل ، ويقومون العمل بمقدار ما يحقق من خير لأمتهم وللإنسانية أجمع ؛ يدأبون فى العمل ، ويعرضون حياتهم للخطر فى سبيل مرض يكتشفونه وداء يعالجونه به ، أو فى سبيل تحرير العقول من أغلالالها ، أو تحرير العقيدة مما أفسدها ، أو يحاربون الظلمة والطغاة لتحقيق العدل فى الأمة أو العالم ، يحتملون فى ذلك العذاب ألوانا ، لأن عشقهم للحق غلب حبهم للذات ، وهيامهم ب (( نحن )) أضعف حبهم ل (( أنا )) . فإذا قال الطفل (( أنا )) , وقال الإنسان العادى (( أسرتى )) ، قال الرجل (( أمتى )) . أو (( عالمى )) ؛ وإن تلذذ الناس بالعمل يربح ، تلذذ هو بالفكرة تنجح ؛ وإن تساءلوا عند العمل : ماذا نجنى من دخل ؟ تساءل هو : ماذا يستلزم العمل منى من جهد ؟ .

قد منحهم الله قوة من قويه ، وقدرة على الخلق من قدرته : يخلقون النافع فيما حولهم ، ويبتدعون الجمال ينشرونه فى دائرتهم ، فهم - دائما - مصدر نفع وجمال . حددوا غرضهم فى الحياة ، فعلموا أنهم لا يصلون إليه إلا إذا فهموا حق الفهم دنياهم التى يعيشون فيها ، وطبائع نفوس الناس فى الاستجابة للإصلاح والنفور منه .

يلتذون تحمل التبعات كما يلتذ الجبناء الهرب منها ، يواجهون الصعوبات بابتسام ، ويتقبلون الهزيمة ربما يستعدون للوثوب ؛ أقوياء فى خصومتهم ، صابرون فى هزيمتهم ، كرماء سمحاء فى انتصارهم ؛ آلوا على أنفسهم أن يكونوا قوة محاربة للشر المحيط بهم حتى ينهزم ، وأن يكونوا ضوءا يدافع الظلام حتى ينجاب ؛ يكرهون من أعماق نفوسهم المرض والجهل والفقر ، والسخافة

والتخريف ، وكل عيوب البشرية ، ومع هذا يمزجون كراهيتهم لهذه الأشياء بالعطف على المنكوبين بها حتى ينقذوهم منها .

كافأتهم الطبيعة على حسن صنيعهم براحة ضميرهم وطمأينة بالهم ، لأن الطبيعة فرضت أن يكون الإنسان اجتماعيا ، وفرضت أن يتبع سنة الارتقاء ، فأثابت من جرى على سنتها ، وعاقبت من خالف قوانينها ؛ فإذا رأيت سأما وضجرا بالحياة ، وميلا إلى الانتحار ، وجنونا بعد عقل ، وشقاوة نفس بعد سعادة ، ثم - ولاشك - قانون طبيعى خولف ، وطريق مستقيم عدل عنه .

ثم الأمر فى النفس ليس كالأمر فى الجسم ، فقد ينضج الجسم ويكتمل ، والنفس لا تزال على حالها نفس طفل ؛ فالشاعر كان محقا حين قال : (( جسم البغال وأحلام العصافير )) , وفى الناس حولنا أشكال وألوان من هذا القبيل ، رجولة جسم وطفولة نفس ، ومقياس ذلك الذى لا يتخلف هو ضمير (( أنا )) و (( نحن )) ؛ فإن رأيت لا شئ إلا (( أنا )) رأيت طفلا مهما كان جسمه وسنه ، وإن رأيت (( نحن )) كثيرا و (( أنا )) قليلا رأيت رجلا ، والرجال قليل .

هناك من ليس أمامه فى الدنيا إلا جسمه ، يبحث حياته عن الأكل الطيب والملبس الطيب والنعيم الطيب ، وذلك كل تفكيره ، وكل سميه ، وكل غرضه ؛ ركزوا فى صحة جسمهم ونعيمه كل شعورهم ، وكل عواطفهم ، وكل ملذاتهم ، فإن عملوا عملا خارج هذه الدائرة فلهذه الغابة ، تعرفه بالإفراط فى العناية بنوع ما يأكل ، ومقدار ما يأكل ، وبهندامه وبمرآه فى المرآة ، وبالحذلقة فى حركاته وسكناته ونحو ذلك ، ثم لا شئ ؛ فهذا طفل كبير .

وإن شئت فعد من هذا القبيل ناسكا راهبا لا يفكر

فى أحد من بنى آدم حوله ، ولا يهمه حال قومه سياسيا ولا اجتماعيا ، ولا يعنيه شقوا أم سعدوا ، ولا يحمل تبعة شئ ، ولا يصادق أحدا ، ولا هم له فى الحياة إلا نفسه وعبادته ؛ أليس هو الآخر طفلا كبيرا شغلته (( أنا )) عن (( نحن )) ؟

وهناك من يحد العالم بحدود نفسه ، إذا فكر فكر فيها ، وإذا عمل عمل لها ، لا يعنيه من العمل إلا مقدار ربحه منه ، خسر الناس أو كسبوا ، لا يمنعه من الغش فى عمله إلا خوف العقوبة ، فأن أمنها عمل ما شاء ليربح مالا ، أو يكسب شهرة ، أو يحقق غرضا من أغراضه لنفسه ، تعلم درس الأخذ ولم يتعلم درس العطاء ، وليست الدنيا كلها وما فيها إلا قنطرة يعبر عليها للوصول إلى غايته ، فهذا كذلك طفل كبير .

وهناك من يهرب - كالطفل - من كل تبعة ، لا يقتحم الحياة ولكن ينتظر القدر ، ولا يزاحم ولكن ينتظر الحظ ، إن عرض له شئ متعب تنحى عنه إلى شئ مريح .

وهناك أسوأ من هذا : من رفع نفسه فوق الناس ، فهم لم يخلقوا إلا له ، ولم تخلق عيونهم إلا لتقع على مطلبه ، ولا آذانهم إلا لتصغى إلى كلمته ، ولا أيديهم إلا للعمل فى خدمته ، يسير فى الحياة على ما يهوى ، ويحب أن يسير الناس فقط على ما يهوى ، فهذا أيضا طفل كبير ؛ وكم فى الناس من أطفال كبار ، وهم فى طفولتهم أشكال وألوان .

ارسم خطا مستقيما رأسيا ، وضع فى أسفله (( أنا )) وفى أعلاه (( نحن )) وامتحن نفسك : كيف أنت فى عملك ، هل لا تنظر إلا إلى شخصك ، أو تراعى فيه مصلحة قومك ؟ وكيف أنت فى علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك ، وهل تؤدى زكاة مالك ، وزكاة علمك ،

وزكاة فنك ، وزكاة كفايتك ، أو تشح بكل ذلك ، فلا تنفقه إلا لمال أكثر تحصله ، او جاه تبتغيه ؟ وكيف أنت فى نياتك ومقاصدك ، هل يؤملك بؤس الناس وشقاؤهم وفقرهم ، فتتعاطف معهم ، وتعمل جهدك لإسعادهم ، أو أنت وبيتك ، ثم على الدنيا العفاء ؟ وحدد بذلك كله مركزك من الخط المستقيم ، فإذا قربت جدا من (( أنا )) فهذا دليل الطفولة ولا محالة ، وإن قربت جدا من (( نحن )) فأنت رجل .

هذا هو التقويم الصحيح للناس ، وهو - مع

الأسف - غير ما تواضع عليه الناس ، إنهم يقدرون الرجل بماله وبجاهه وبمنصبه ، وبكل شئ إلا قيمته الحقيقية ؛ ولو راعيت هذا المقياس الحق الذى ذكرنا لرفعت من شأن عامل بسيط على صاحب مصنع كبير . وموظفا فى الدرجة الثامنة على موظف فى الدرجة الاولى ، ومعلما أوليا على سرى كبير ، وكناسا مخلصا على طبيب غير مخلص ، وجنديا مجهولا على قائد مشهور . ولكن أنى لما المدنية الحقة التى يهدم نظام القيم المتعفن لنضع مكانه نظاما لقيم نظيفا ؟

اشترك في نشرتنا البريدية