ليست العوامل التي ألهمت محمود تيمور الكتابة هي عوامل الوراثة والبيئة وحوادثه الخاصة التي اعترضت حياته - ليس هذا هو كل شئ ، وإنما " الحافز الشخصي " الذي يشعر الكاتب بميله الفطري نحو إدراك الحقائق ، والقدرة على تصويرها وإبرازها في صور وأوضاع صحيحة ؛ هذا الحافز هو منبع إلهامه ، وسر خياله في كتابة القصة .
على أن هذه العوامل - الوراثة والبيئة والحوادث الشخصية - لا تكاد تكون أسبابًا بقدر ما قد تكون مقومات لإظهار أثر الأديب والفنان ؛ فلو وضعنا شخصًا من سلالة العلماء أو الأدباء أو الفنانين وسط مكتبة أو متحف ، وهيأنا له البيئة العلمية أو الأدبية أو الفنية ، وقدر لهذا الشخص أن تصادفه في الحياة أحداث تثير عوامل الإنتاج الأدبي أو الفني ، لو استطعنا أن تهيئ هذا لشخص محروم من الحافز الشخصي لكان عملنا عبثًا ومضيعة .
ولكن محمود تيمور قد وجد من نفسه الحافز الشخصي والذوق الأدبي لفن القصة ، ووجد إلى جوار هذا وراثة علمية وبيئة أدبية وحوادث زاخرة أمدَّت أخيلته بصور الحياة المختلفة التي ادخرها لمادة القصة .
وحياة محمود تيمور تكاد تكون قصة زاخرة بالصور ؛ فوالده أحمد تيمور باشا شيخ من شيوخ الأدب والعروبة والفقه اللغوي ، وعمته السيدة عائشة هانم التيمورية الشاعرة التي برزت في حريم الأدب المصري في القرن الماضي ، وشقيقه محمد تيمور كان كاتبًا فنانًا ومسرحيًا
مجددًا ، ثار على تقاليد عصره , اختطفه الموت في شباب مبكر ولما يؤد رسالته .
بين هذه الصور وهذه العوامل المتجاذبة سار محمود تيمور كالمسحور ، لا يعرف أية خطة يسلك في حياته الأدبية كفنان له رسالة في الحياة يريد أداءها وبعثها . أيتخذ من صور المرحوم والده سبيل الأدب القديم ، أم يسلك طريق أخيه الشاب الثائر على تقاليد عصره ، أم يتخذ من صور الحوادث وما يقرأ من أدب غربي ما يلهمه لبعث رسالته .
في الحق أن محمود تيمور هو صورة من هذا المزاج الأدبي ، فهو يصور عمته الشاعرة في نظرته الزاخرة بالخيال عندما تحتاج القصة إلى لون من ألوان الخيال ، وهو يصور والده الشيخ الأديب المحافظ في دأبه وأمانته لفنه عند ما يعالج صور هذا العصر القديم ، وهو يصور أخاه محمدًا في ثورته وفنه وتجديده عندما يسخر بالقيود التي تعترض تفكيره ، فينتزع من المجتمع صورًا لأشخاص قصصه في أسلوب مرسل يبرز به ما في جوف مجتمعنا من عيوب وأضداد .
ولا يستطيع محمود تيمور أن يُجَرِدَ نفسه من هذه الصور التي تلاحق حياته , وتلازم وَعْيَه عندما يفكر في أنه ولد في " درب سعادة " أحد أحياء مدينة القاهرة الوطنية ، ومضى بطفولته في منزل يشبه القلعة المهدمة ، وما في هذه القلعة المهدمة من أقوات وجوار لهم لونهم ووجوههم وأصواتهم وتقاليدهم التي توحي رائع الخيال وساحر التفكير ؛ بل لا يستطيع محمود تيمور أن يتجرد من نظام ( الحريم ) الذي كان سائدًا في البيوت الأرستقراطية مبدأ هذا القرن ، هذه الطفولة المدللة التي حقها هذا الجو الزاخر بالأخيلة هي قصة بديعة يستمد منها خيالُ محمود تيمور الأديب القاص صورًا شتى للمجتمع المصري في العصر الماضي . وأنت تستطيع أن تلمح هذا الجو الفني وتحسه في أقاصيصه
الأولى التي كتبها في مستهل حياته الأدبية ، عندما يدخل بك إلى قصر من القصور ويصف لك " الهانم " تحدث " الأغى " وعندما يلتئم مجلس الأسرة المصرية في حشمة ووقار حول موقد نحاسى كبير ، تعلوه أدوات القهوة ، وتحف بجنباته المساند والحثيات (1) (الشك) . تستطيع أن تحس هذا الجو الذي كان يسود الحياة المصرية عندما يصور محمود تيمور نظام " الحريم " في صور جذابة وينتزع ققصصه أشخاصًا أصبحوا الآن كالأخيلة والأطياف .
ولقد أوحت إليه صورة عمته السيدة عائشة التيمورية الشاعرة التي أدركها في أخريات حياتها , صور العصر الذي كانت تعيش فيه المرأة محاطة بنظام كامل من الحريم ، من الخدم والستائر والحجب ، والأغوات والعربات المغلقة ، والخيول المطهمة . لقد تخيل محمود تيمور عمته في جلستها على مقعد فسيح محاط بالمهابة ، كأنها الملكة " فيكتوريا " متربعة على عرشها ، يحيط بها سِربٌ من القطط جاوز الشباب إلى سن الكهولة ، ولكل قطة حَثِيَّة تجلس عليها . هذه الصور تكاد تلمسها في القصص الأولى التي كتبها محمود تيمور - البيت المصري القديم الذي تسوده روح السيارة التركية ونظام الحريم ، هو مثار الخيال لقصة محمود تيمور في عهده الأول ، وما زال يلاحق خياله إلى الآن .
وكان محمود تيمور فتى مدللًا في بيته يحاط بالكثير من الدل والعناية كما أصاب صحته مرض أو ضعف . وكان طبيب المنزل إحدى الصور التي أثرت خيال قصته , وأنمت لونًا بديعًا من ألوان هذا الجو الذي كان يعيش فيه محمود تيمور ؟ لم يكن هذا الطبيب إلا صورة من صور هذا العصر ؛ فقد كان رجلا نحيفًا ذا طربوش أفطس , ووجه أسمر مهزول - وقد نسى محمود تيمور أن يلصق له لحية مدببة بعض الشيء في ذُبابة ذقنه - كان يحضر
هذا الطبيب إلى البيت كصديق معالج ، لا كطيب مداوٍ ، ويمكث مع محمود وأفراد أسرته الساعات الطوال ، كما يقول هو : " يُجرعنا الدواء ، ويتجرعه معنا ، وهو يروي لنا القصص والنوادر" . فكل شيء كان يحيط محمود تيمور يوحي إليه الخيال والقصة ، حتى طبيبه كان يشترك معهم في شرب الدواء ، ويروي لهم القصص والنوادر ، ويلعب أمامهم كالبهلوان .
وعندما كان يبرح محمود تيمور مدينة القاهرة إلى عزبة والده في الريف كان يلتفت كثيرًا إلى صور الريف وجماله وأغانيه ؛ فلفت نظره خفير الوسية ، وفقيه القرية ، والصور الأخرى التي يزخر بها الريف المصري ، فأخرج كل هذا في قصصه الأولى " الشيخ جمعه وقصص أخرى "
والنواحي الأدبية والفنية والاجتماعية في محمود تيمور تُصور حقًا عصر النهضة التي عاصرناها ، فشأنه شأن شبابنا الذي عاصر في طفولته أو صِبَاهُ الحرب الماضية ؛ وكانت فكرة الخلافة تملأ رءوسنا ، وكنا نرضي بتبعيتنا لدار الخلافة ، لأننا كنا نفهم الوطنية على أنها اندماج في الخلافة مع الأمم الشرقية ؛ هذا التفكير الاجتماعي أفقدنا الاعتداد بالنفس فافتقد أدبنا الصور الحية التي توحيها الحياة الحرة الخالصة ، فلم نلق من كتب الأدباء المعاصرين إلا الصور المنتزعة من الأدب العربي القديم في عصوره الضعيفة المغلوبة . في هذا الجو تلقانا السيد المنفلوطى بأدبه ذي النزعة الرومانسية العذبة ، وقرأنا الأدب العربي المتأمرك فيما كانت مدرسة جيران تجود به من شعر ومزى منثور وأخيلة موسيقية ؛ ثم سمعنا صوت سعد زغلول وتلاميذ لطفي السيد يتحدثون عن القومية ، ويعيدون نفحات الإمام محمد عبده وصرخات قاسم أمين ، " فخرج أدبنا من قاعات ألف ليلة حيث يعبق البخور إلى ميدان النور والحياة " . وهنا بدأت المرأة تلعب بأناملها النارية تارة والغادرة أخرى في قصة محمود تيمور ، وشعرنا بانضمام عنصر مهم من عناصر الفن القصصي لم يكن
ليجرؤ على إدخاله كاتب من قبل ، وأصبحت المرأة محور القصة كما هي محور الحياة والمجتمع والبيت ؛ وبهذا الانقلاب الاجتماعي اتجه محمود تيمور بالقصة نحو الكمال .
وهنا اتجهت المدرسة الحديثة إلى إخراج أدب جديد ، وذكرت ما كان يدعو إليه محمد تيمور وما كان يتحدث به عندما عاد من أوربا يحمل بين جنبيه ثورة قوية جريئة على تقاليدنا القديمة ، وأصبح الأمر الذي يشغل بال الأدباء هو إنشاء أدب مصري يستمل وحيه من دخيلة نفوسنا وصميم بيئتنا ، وينتزع من صلب الحياة المصرية صورًا شتى ، ويصورها أصدق تصوير .
هذه الدعوة لا يمكن أن تحقق في سهولة ويسر إلا في الصور التي يستشعرها الأديب والفنان في قصة يكتبها أو قصيدة ينظمها ، ومكن لهذه الدعوة قبولنا للتجديد والاستقراء والسفر إلى أوربا . وأخذ محمود تيمور يبحث في الأجواء المصرية فيدخل البيت المصري الجديد ويخرج لنا منه صورًا ؛ وهو يعاني دور الانتقال من القديم إلى الجديد ، ويخالط الأسرة في تطورها الجديد ، ويبرز لنا صورًا للزوابع الاجتماعية وهي تعصف بالبيوت والأسر في مبدأ الانتقال والتطور ، وأخرى للضحايا الذين يستشهدون في هذه الحرب حتي تستقر النظم وتسير الأمور سيرًا عاديًا .
فدراسة محمود تيمور هي في الحق دراسة صفحة من صفحات النهضة الأدبية لفن القصة في مصر . وإذا كان الأدب المصري لم يفز بعد بالقصة المصرية الكاملة الفن والأوضاع ، فإن محمود تيمور استطاع غير مرة أن يشق هذا الطريق ، وأن يوفق فيه توفيقًا ملحوظًا . وليس من شك في أن محاولات أدبائنا وكتابنا وجهودهم في هذا السبيل لن تظفر بالقصة الكاملة - وأقصد بها الرواية " Roman " إلا عندما تتم لمجتمعنا المصري الحصانة الخلقية والثقافية التي يستطيع بها أن يقابل الحقائق والآراء
الجديدة والنقد الحر والانقلابات الفكرية في قبول واطمئنان ؛ عندئذ يستطيع محمود تيمور وغيره من الكتاب أن يخرجوا الأدواء من جسد مجتمعنا المريض ، وأن يَبْتُروا منه الفاسد من أعضائه ، وأن يصوروا هذا في رواية " Roman " - تعالج حياتنا ومقومات خلقنا ، وتنقد خرافاتنا وأساليبنا في الحياة نقدًا حرًا لا التواء فيه ولا إبهام .
فالمجتمع المصري لا يقوى الآن على قبول القصة كما يجب أن تكون عليه ، لأنه لا يقوى على قبول الآراء الجديدة إلا بقدر . والقصة " Roman " لا يمكن أن تكون كالمقال تعالج المجتمع في مواربة أو حذر أو تحفظ ، ولكنها تعالجه صريحة جريئة ، وتبرز صوره كما هي لونًا ومذاقًا ؛ فهل يقوى مجتمعنا المصري على قبول القصة الكاملة التي تصور نواحيه المتداعية في البيت والأسرة والشارع والمكتب والسوق والريف ؟ هناك عيوب خلقية وثغرات عميقة وأخطاء خطرة في نظمنا وخلقنا ، وأساليب تفكيرنا وعاداتنا ، ومقومات حياتنا الاقتصادية ، تريد الرواية أن تعالجها ، فهل لمجتمعنا المصري من الحصانة الخلقية والثقافية ما يستطيع أن يقابل به الحقائق على مرارتها وقسوتها من جلد ورضى ؟
وهل يرحب المجتمع بهذا الكاتب الجريء الذي يخرج القصة مُصورة لمهازل حياتنا الاجتماعية ؟ أم يصرخ في وجهه قائلًا : إنه آثم فألقوا به إلى السجون
والآن يجيء الطور الثاني لمعركة البحر الأبيض المتوسط نتيجة لهذا الانقلاب في خطط المحور ؛ فقد رأت ألمانيا نفسها مرغمة على أن تتقدم لإنجاد حليفتها المنهزمة ، وأن تتم ما بدأته من فرض سيطرتها على البلقان ؛ وكانت تظن أنها تستطيع أن ترغم يوجوسلافيا على قبول هذه السيطرة راضية كما فعلت في رومانيا وبلغاريا ؛ ولكن يوجوسلافيا آثرت بعد لحظة ضعف أن تدافع عن استقلالها كما فعلت اليونان ؛ فكان ذلك نذيرًا باعتداء ألماني وحشي جديد على الدولتين المستغيرتين اللتين اجترأتا أن تقفا في وجه المحور .
وقد أشرنا في مقالنا منذ أسبوعين إلى أن غزو يوجوسلافيا لم يكن هو الخطة المثلى للقيادة الألمانية العليا ، وأنها كانت تؤثر أن تتفاداه لو أن يوجوسلافيا قبلت من تلقاء نفسها أن تنضوي تحت لواء المحور . أما الآن فإن ألمانيا ترى نفسها مرغمة على أن تخوض حربًا كبيرة في البلقان ، وأن تستخدم قوات عظيمة لاقتحام يوجوسلافيا من الشمال والشرق والجنوب الشرقي ؛ وقد استطاعت القوات الألمانية أن تتوغل في يوجوسلافيا من عدة نواح واضطر الجيش اليوجوسلافي تحت الضغط الألماني الهائل أن يتراجع إلى الجبال الداخلية ، وانشطرت قواته إلى وحدات عديدة تقاوم في جبهات متفرقة ؛ وقد تستغرق هذه الحرب غير النظامية وقتًا قبل أن يسيطر الألمان تمام السيطرة على يوجوسلافيا . وسوف يرغمون على أي حال على أن يحتفظوا فيها بقوات كبيرة .
ويحاول الألمان من جهة أخرى العمل على تمزيق يوجوسلافيا بتقسيمها إلى وحداتها العنصرية القديمة ، وقد أنشأوا في زغرب عاصمة ولاية كرواتيا دولة مستقلة على يد بعض الخونة تمهيدًا لتحقيق هذه الخطة .
كذلك ترى ألمانيا نفسها مضطرة إلى استخدام قوات
كبيرة لمهاجمة اليونان وإخضاعها ؟ وقد أحرزت نجاحًا في الطور الأول من الهجوم ، فقطعت تراقية الشرقية عن باقي اليونان ، واجتاحت مقدونية واستوات على سلانيك ؛ وكان هذا متوقعًا إزاء عنف الهجوم وضخامة القوى المصفحة التي يستخدمها الألمان ؛ ولكن الظاهر أن هذا التقدم أخذ يصطدم بعقبات خطيرة ؛ فالمعروف أن القوات البريطانية التي أرسلتها انكلترا لنجدة اليونان ، ترابط مع الجيش اليوناني في خط منيع جدًا ، يمتد في شعب الجبال من جبل أولمبوس الواقع غربي خليج سالونيك ، وإنه من الصعب على القوات المصفحة أن تعمل في مثل هذه الطبيعة الوعرة ؛ هذا إلى أن القوات البريطانية من جانبها لا تقل استعدادًا من الناحية الفنية عن القوات الغازية ، وتؤازرها وحدات قوية من سلاح الطيران تزعج القوات الألمانية بلا انقطاع .
وقد مضت أيام عدة منذ أحرز الألمان نجاحهم الأول بالاستيلاء على سالونيك ، ولم نسمع أنهم تقدموا كثيرًا بعد ذلك ؟ وقد تمضي أيام وربما أسابيع أخرى قبل أن يحرز الألمان في اتجاه الجنوب تقدما يذكر ؛ وهكذا تفقد الحرب الصاعقة عنفها وسرعتها شيئًا فشيئًا ، وتستحيل إلى معارك طويلة شاقة ، وتتمكن انكلترا في تلك الاثناء من العمل على زيادة إمداداتها لليونان .
هذا هو الشق الأول من معركة البحر الأبيض المتوسط ، وهو شق لا يزال في بدايته ؛ ومن سبق القول أن نحاول الآن أن نتنبأ بشيء عن تطوراته المستقبلة .
وأما الشق الثاني من هذه المعركة فهو الهجوم الجديد الذي نظمته القوات الألمانية والإيطالية في اتجاه مصر ، في نفس الوقت الذي وقع فيه الهجوم الألماني في البلقان .
وإنه لمن بواعث الأسف حقًا أن تضطر القوات
البريطانية إلى إخلاء برقة ، بعد أن أتمت الاستيلاء عليها ، بالاستيلاء علي عاصمتها بنغازي ؛ ولكن مما لا ريب فيه أن الضرورات العسكرية وحدها هي التي أملت بهذه الخطة ؛ فقد لبثت القوات الألمانية المصفحة مدى حين تتسرب من البحر عن طريق المياه الإقليمية التونسية إلى طرابلس ؛ وفي تلك الأثناء كان الشطر الأعظم من القوات البريطانية ، قد نقل إلى شرقي أفريقية ، لتحطيم جيوش الدوتشي في الصومال والحبشة وارتريا ؛ والظاهر أن المعارك في تلك الجبهة قد طالت عما كان مقدرًا لها نظرًا لشدة المقاومة الإيطالية في كيرين وغيرها ؛ ففي الوقت الذي شغلت فيه قوات الإمبراطورية بهذه المهمة وقع الهجوم الألماني الإيطالي الجديد على برقة ؛ واضطرت القوات الإنكليزية القليلة إلى التراجع أمام قوات تفوقها أضعافًا مضاعفة ، واستمر هذا التراجع حتى الحدود المصرية ، مع استثناء ثغر طبرق . فقد آثرت القيادة البريطانية أن تحتفظ به نظرًا لأهميته البحرية ؛ على أنه يوجد في الأنباء الأخيرة ما يدل على تحسن الموقف ، وعلى أن القوات الإمبراطورية أخذت تحشد بسرعة ، وأنها أصبحت كافية لوقف التقدم الألماني في هذا الاتجاه .
كذلك أبدى الأسطول البريطاني مرة أخرى أهميته كعامل قوي في تحطيم الهجوم على مصر من الغرب ، إذ وفق إلى إغراق قافلة بحرية كبيرة للأعداء في مضيق صقلية هي والنسافات التي تحرسها ، وقام بضرب خطوط الألمان فيما وراء طبرق ضربا شديدًا .
ويلاحظ فيما يتعلق بمعركة الصحراء الغربية بنوع خاص طول خطوط المواصلات التي يتركها الجيش المتقدم وراءه ؛ فبين الحدود المصرية وبنغازي نحو خمسمائة كيلو متر ، وبين بنغازي وطرابلس نحو ثمانمائة كيلو متر ؛ وهذه المسافات الشاسعة تجعل من المتعذر تموين الجيش الزاحف
وإمداده بالسرعة اللازمة ؛ وقد كان المعروف حسبما ذكر لنا مستر تشرشل في خطابه الأخير أن القيادة البريطانية لا تنوي أن تتوغل كثيرًا في برقة بعيدًا عن قواعد تموينها ؛ ولكنها رأت أنها تستطيع تحطيم القوات الإيطالية المرتدة بسلسلة من الانتصارات السهلة ، فاستمرت في تقدمها إلى ما بعد بنغازي .
على أن تقدم الألمان إلى الحدود المصرية شيء ، وغزو مصر ذاتها شيء آخر ؛ وقد يكون من خطة القيادة الألمانية أن تغزو مصر حقًا ، فالاستيلاء على مصر وقناة السويس أمنية من أعظم أماني المحور ، وهو يعتبر ضربة من أشد الضربات التي يمكن أن توجه إلى الإمبراطورية البريطانية ؛ وهذا هو بالذات ما يحمل بريطانيا العظمى على أن تعتبر الدفاع عن مصر مسألة حيوية بالنسبة إليها ، وأن تستعد له بكل ما وسعت من قوة ؛ وعلى ذلك فإنه يلوح لنا أن القصد الأول الذي يرمي إليه الزحف الألماني في اتجاه مصر ، هو إرغام القيادة البريطانية على الاحتفاظ بقوات كبيرة في هذه الجبهة ، وعدم تمكينها من إرسال إمدادات أخرى إلى اليونان ؛ على أنه يلاحظ أن القوات الإمبراطورية كادت تنتهي من مهمتها في شرقي أفريقية ، وبذلك يتسنى للقيادة البريطانية أن توجه هذه القوات حيث يتطلب الموقف توجيهها .
وليست معركة البحر الأبيض في الواقع إلا ناحية من نواحي المعركة الكبرى التى تضطرم بين دولتي المحور وبين بريطانيا العظمى ، وتضطرم في هذه الآونة بالذات معركة الأطلنطيق التى تشهرها ألمانيا بواسطة غواصاتها وطائراتها لتدمير مواصلات بريطانيا الإمبراطورية ، ومنع الإمدادات الأمريكية من الوصول إليها ؛ ومن سبق القول أن نتحدث الآن عن نتائج هذا النضال البحري المروع الذي لم تعرف
تفاصيله حتى الآن ؛ بيد أنه يلوح أنه لم يحقق حتى اليوم كثيراً من النتائج التي ينشدها الألمان ؛ فالإمدادات الأمريكية والإمبراطورية تتدفق على بريطانيا ؟ ويبدو من جهة أخرى أن أمريكا تعتزم أن تبذل كل جهد ممكن لتأمين وصول إمداداتها إلى مقصدها ؛ وقد استعانت في إعداد السفن اللازمة لهذا الغرض بالأستيلاء على سفن دولتي المحور وسفن الدول التي تحتلها ألمانيا الموجودة في المياه الأمريكية ؛ وقد لا يمضي بعيد حتى تقرر أمريكا حراسة القوافل المرسلة بواسطة سفنها الحربية وطائراتها . وقد قرر الرئيس روزفلت أخيرًا إخراج منطقة البحر الأحمر من ثبت المناطق المحرمة على السفن الأمريكية ، بعد أن طهرت هذه المنطقة من السفن الحربية الإيطالية وأصبحت الطريق مأمونة ؛ ولهذا القرار أهمية خاصة بالنسبة لمعركة البحر الأبيض المتوسط وأعمال الدفاع عن مصر . ذلك لأن الإمدادات الأمريكية من الذخائر والطائرات وغيرها يمكن أن تصل إلى الشرق الأدنى عن طريق المحيط الهادي أو طريق " الكاب " . ومفهوم أن شحنات كبيرة من هذه الإمدادات وجهت من عرض البحر إلى هذا الطريق بحيث لا يتأخر وصولها طويلًا إلى مقصدها .
وعلى أي حال فإن معركة البحر الأبيض المتوسط تدور اليوم بالنسبة لبريطانيا العظمى في ظروف أفضل بكثير مما كانت عليه في الخريف الماضي ؛ فقد انهارت قوات الفاشيستية في شرقي أفريقية ، وزال كل خطر على مصر والسودان من هذه الناحية ، وحطمت قواتها في لوبية ، وإذا كان الألمان يستأنفون اليوم الزحف على مصر ، فلا بد لهم لتحقيق خطتهم من الاعتماد على قوات ضخمة للتغلب على القوات البريطانية التي تحتشد بسرعة للقائهم . ونحسب أنه من المتعذر أن يجلب الألمان قوات جديدة ضخمة إلى لوبية بمهماتها وعتادها من وراء البحر ؛ وتحسب أنهم لا يحتكمون الآن في لوبية على قوات تكفي للقيام بهجوم حقيقي على مصر . ومهما كان من سير الحوادث في البلقان فإنه لا بد أن يمضي وقت غير قليل قبل أن ينجلي الموقف هنالك ، ويحصل الألمان على نتائج حاسمة ، إذا أتيح لهم أن يحصلوا عليها ؛ وسنرى في تلك الأثناء ما يمكن أن تسفر عنه معركة الأطلنطيق ، وماذا يكون من آثار المعاونة الأمريكية التي تتزايد يومًا بعد يوم .
