فى اليوم الثامن من أكتوبر من العام الحالى أعلنت مصر إلغاء معاهدة الظلم والاستعباد؛ وقالت كلمتها الخالدة مدوية فى آفاق المعمورة فرددت الشعوب العربية والدول الإسلامية صرخة مصر، وقامت المظاهرات فى دمشق وبغداد وبيروت وطهران والدار البيضاء تضامنها مع مصر المجاهدة، صارخة صرخة الحق فى وجه المستعمر الغاصب بأن يجلو عن وادى النيل، ويعترف بحق مصر فى الحرية والاستقلال
ثم صدمت مصر الاستعمار مرة ثانية حين أعلنت رفضها لما أسموه مقترحات الدول الأربع للدفاع عن الشرق الأوسط؛ فحطمت آمال المستعمرين وقلبت خططهم رأسا على عقب
ووقفت الشقيقات العربيات أيضاً من مصر المجاهدة موقف التأييد التام والتضامن الكامل ضد أقطاب الاستعمار، كما وقف العالم الإسلامى ينادى بحق مصر فى سيادتها على القناة، وحقها فى جلاء الجيوش المحتلة عن أراضيها، وحقها فى الوحدة، وكان ذلك الموقف الرائع من العالمين العربى ولإسلامى دليلا واضحا على أن العرب والمسلمين قد أكتمل وعيهم، واستوى نضجهم السياسى ولم تعد تنطلى عليهم حيل الدول المستعمرة، بعد أن أخلصوا لها الود، وقدموا المعونة فى حربين عالميين فقوبلوا بالتنكر لأمانيهم القومية. والاعتداء على حقوقهم السياسية
وليست الحرب بين الإسلام والاستعمار وليدة اليوم. وليس الصراع بين الشرق والغرب ابن عامة هذا، ولكنه صراع بدا بعد الحرب العالمية الأولى منذ انتصر الحلفاء، فقسموا الشرق العربى بينهم، وجزءوه إلى دويلات ضعيفة لا تستطيع النهوض حتى يتمكنوا بذلك من استعمارها أكبر مدة من الزمن. ولكن الصراع ليس صراعا سياسيا فحسب، بل هو صراع ديني واجتماعى قبل أن يكون صراعا سياسيا، أنه صراع المبادئ ولأفكار،
وصراع النفوس والقلوب. ولابد أن تتضافر الجهود وتتعاون القوى ليخرج الشرق من هذا الصراع مرفوع الرأس وضاح الجبين
ولقد راعنى أن يكون الأدب بمنأى عن هذا الصراع الحاد الذى يندلع لهيبه يوما بعد يوم. وكم أسفت حين تطلعت فرأيت الفن لا يسهم فى هذه المعركة بين الشرق الإسلامى والغرب، أو بين المسلمين والمستعمرين، وللأدب نفوذه وسلطانه، وللفن عرشه وصولجانه، وللأدباء فى الأمة المكانة السامية، والمنزلة العالية، هم النجوم التى ترشد السارين إذا كفهر الجو وأظلم الأفق، وهم المصابيح اللامعة التى تهدى الضالين إذا تشعبت السبل، وتعددت المسالك
إنى لا أريد أن أتهم الأدباء بأنهم تنكروا لأمتهم، وتجافوا عن مجتمعهم، حين عاشوا منطوين على أنفسهم، فى أبراجهم العاجية، لا يحسون بإحساس أمتهم، ولا يشاركون مجتمعهم آلامه وآماله، فكان إنتاجهم فى الكثير الغالب مرآة انعكست عليها حياتهم الخاصة، مما دعا الأمة والمجتمع إلى الانصراف عن هذا الأدب الذى لم تجد شخصيتها، ولم يحس فيها المجتمع بوجوده
وكان الأدباء مسئولين عن هذه الجناية، لأنهم الذين أتاحوا للقراء الانصراف عن إنتاجهم إلى الأدب الرخيص الماجن الذى يغذى الجانب الهابط فى النفس
وإلا فما بالنا لا نقرأ - والمحن تتوالى على العروبة، والضربات تتابع على أقطار الإسلام - إلا أدب الضعف والانحدار!! أدب التدهور والانحلال!! كأننا لسنا فى صراع مع الاستعمار!!
ألم تكن مأساة فلسطين الدامية، وتشريد مليون من أبنائها من إخواننا وأبناء عمومتنا وهيامهم على وجوههم فى المهامه والقفار، يفتك بهم البرد والجوع.. كافية فى أن تهز منا القلوب، وتشعل الأفئدة، وتضرم الجوانح؟
لقد نظرت إلى الأدب قبل المأساة وبعدها فلم أجد تغيرا واضحا إلا عند قلة من الأدباء يعدون على أصابع اليد الواحدة
إن المعركة القائمة اليوم بين حق مصر وباطل بريطانيا ليست معركة مصر وحدها، وبريطانيا وحدها، ولكنها معركة الشرق العربى بأسره ضد الدول المستعمرة التى تظاهر بريطانيا فى باطلها.
وتناصرها فى عدوانها على الشعوب الضعيفة
إنها المعركة التى تغذى القرائح عند أدباء العرب والإسلام، فتدفعهم دفعا إلى المساهمة فيها
قد يقال إن هذا أدب مناسب فى كارثة لا يلبث أن يزول. أنه كغمامة صيف عما قليل تكشف. والإجابة عن ذلك أن هذا ليس أدب مناسبات، ولكنه أدب خالد فأدب القوة والكفاح أدب خالد.. لأن الأمة الضعيفة لا وجود لها فى عالم تسوده الذئاب والأسود
إن كثيرا من الشعراء الأوربيين قد خلدوا بأسفارهم الوطنية التى أيقنت فى نفوس أممهم روح التضحية، وأوقدت فى قلوبهم النخوة والحمية، فهذا أرنت فى ألمانيا فى القرن التاسع عشر يقول لقومه بعد موقعة (يه نا)
(أعطونى وطنا حرا وأنا أرضى عندئذ أن أفقد كل شهرتى فيصبح اسمى منسيا لا يذكر فى غير دارى ودار جارى.
أعطونى بقعة من أرض جرمانية يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمى بسهم فرنسى
أعطونى كوخا حقيرا يستطيع أن يصبح ديكى فوق حاجزه دون أن يقع فريسة يد فرنسى، وأنا أصيح عندئذ مثل الديك، وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور، ولو أفقد كل ما ملكته يداى فلم يبق لى شىء يستر جسمى غير قميص بال(1) )
نريد أدبا بعد وثبة مصر الجبارة يختلف عنه قبلها، نريد من أدباء وادى النيل وهم كثر والحمد لله ومن أدباء البلاد العربية أن يشنفوا آذاننا بالأغانى والأهازيج الحماسية الوطنية التى تبعث الثقة فى النفوس وتملؤها قوة وبطولة
نريد من الشعراء المشهورين أن يطربونا بشعر القوة والعزة، ومن كتابنا وناثرينا أن يدبجوا لنا المقالات الطويلة عن الإيمان القومى، والوطنية الصادقة، والاستشهاد فى سبيل الوطن... وبوجه عام نريد من الأدباء والشعراء والمؤلفين وكتاب القصة والمسرحية أن يتخذوا من أقلامهم سيوفا تسل فى وجه الظلم، وحرابا
تصوب إلى صدور الأعداء
ونريد منهم أن يثيروا أحقادنا الدفينة لدى الدول الاستعمارية، وأن يذكوا جذوة الوطنية فى نفوس هذا الجيل والأجيال القادمة، ويشعلوها حربا مستعرة الأوار على الاستعمار الظالم فى كل مكان
ولست أريد أن أمنعهم من الأدب الذاتى.. أدب العاطفة والوجدان، ولكنى أرى أنه لابد لهم مع أدبهم فى الدمعة والابتسامة، والهجر والوصل، والفراق واللقاء.. من الأدب الذى يمجد الوطن، ويؤجج الوطنية، وينفخ فى الشباب روح الرجولة والقوة، والعزة والكرامة، والحرية والاستقلال، ولا نريد أن يقف الأمر عند أدب الوهم والخيال.. أدب الهمهمات والشطحات بل يضيفوا إليه أدب البطولة والمجد والرفعة والعلاء
هذه صرختى أوجهها إلى الأدباء، وأنا وطيد الأمل فى أنها ستجد منهم آذانا صاغية. وأختتم هذه الكلمة بأبيات للشاعر المهجرى ميخائيل نعيمة:
أخى ما الصبر؟ إن الصبر كفران وخذلان
أخى ما نحن بالأحرار لكن نحن عبدان
لقد ضاقت بنا الأوطان ما للعبد أوطان
أخي ما السجن هل في السجن آلام حرمان؟
وهل يجدى مع الأحرار قضبان وسجان؟
سوانا يرهب القضبان أو تثنيه جدران
إذا كنا شرارات فنحن اليوم بركان

