الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 312الرجوع إلى "الثقافة"

أدب الجهاد فى سبيل الله

Share

لاحظت - وأنا أدرس شاعر الرسول ) ١ ( ) حسان ابن ثابت ( في مثل هذه المرحلة من التاريخ الهجري منذ سنتين - تفاوتا هائلا في صدق التصوير وجلاله الفنى ، بين بعض سور القرآن التي تناولت حروب الرسول ،

والشعر الذي سجل فيه الشعراء المعاصرون لتلك الحروب ما كان فيها من كر وفر ، ونصر وهزيمة . وقلت إذ ذاك : " ومما يلفت النظر في امر الشعر يوم بدر انه لم يسجل جلال اليوم كما كان يجب ، ولم يستمد من النواحي الرائعة التي لابست الموقف والتي خلدتها سورة الأنفال وحيا وإلهاما

ثم عدت لدراسة هذه الظاهرة ؛ فقرأت ما ورد من أدب الحرب في القرآن ، وضممت إليه ما أثبتته كتب الصحاح من الروايات في هذا الشأن ، ثم ما دونته كتب السيرة والتاريخ ؟ فإذا الموضوع اروع واوسع مما تصورت أولا - وإذا القرآن سجل ادبي صادق لهذه الناحية من تطور الدعوة الإسلامية وحياة صاحبها وإذا اسلوبه المبين فيها واضح قريب المنال لكل ذى ذوق عربي صقيل . وقد وقر في نفسي بعد ان قرأت السور الكريمة ان هاهنا ادبا حماسيا بالغ  التأثير ، لم ينتفع به المسلمون بعد حق الانتفاع في تثقيف الناشئة وطبع نفوسهم على الجد والإقدام

واسترخاص الأرواح في سبيل الحق والوطن . وإخال أن انسب المراحل لهذا اللون من الدرس في حياة الناشئ هي مرحلة المراهقة والبلوغ ، حيث الفتي يتعشق البطولة بطبعه ،

ويتبع سير العظماء والمصلحين ، ويلذ البحث في الحركات الدينية وما تنطوي عليه من آيات الثبات على العقيدة ، وانتصار القلة القوية بإيمانها على الكثرة الفارغة من حرارة الإيمان .

ومن الميسور والمرغوب فيه أن تجعل نصوص القرآن في هذا الموضوع محور دراسة ادبية وتاريخية معا ، وان يضاف إليها توجيه الناشئة إلي قراءة الكتب العربية الحديثة التي تناولت سير الرسول وخلفائه وأصحابه ، ودرست نواحي العظمة والعبقرية فيهم .

وبعد ، فإن القرآن وثيقة أدبية وافية لموقف الإسلام من سياسة القوة في سبيل الدعوة ، ولما آل الرسول والمسلمين من نصر أو هزيمة في القتال في سبيل الله ، ثم ما كان لله معه ومعهم من رضا وتثبيت او لوم وتأديب .

وقد جاءت الصورة التى رسمتها السور المكيه في هذه الناحية تمهيدا تاريخيا وادبيا للملاحم التى رسمتها السور المدنية - والتي سنعرض لها في المقال التالي .

فالرسول يبدو في الأولى داعيا إلي سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، مجادلا بالتي هي احسن ) النحل ( آخذا العفو ، آمرا بالعرف ، معرضا عن الجاهلين ) الأعراف ( ؛ يحاول الكافرون ان يصدوه عن المضي في دعوته ،

أو يحولوه عن شرعته ، أو يصلوا وإياه إلي نوع من المصالحة ) ١ ( ، فيؤمر أن يجيب : " لا اعبد ما تعبدون ، ولا انتم عابدون ما اعبد ، ولا انا عابد ما عبدتم ، ولا انتم عابدون ما اعبد ، لكم دينكم ولي دين" الكافرون ( .

وتستمر قريش في عمايتها و كفرها ، فيحزن الرسول ويرثي لقومه ، فيجيئه الامر الإلهي : " فلا تذهب نفسك عليهم

حسرات إن الله عليم بما يصنعون . . إن الله يسمع من يشاء وما أنت بممسع من في القبور ، إن أنت إلا نذير " ) فاطر ( . ويجهد نفسه في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا ، فيعزيه مولاه بقوله : " أفأنت تسمع الصم او تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين . فاما ندهين بك فإنا منهم منتقمون ، او نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون . فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم "

) الزخرف ( . ويمعن المشركون في الشك في دينه ، والإيذاء له ولأتباعه ، فيجيئه الأمر : " قل يأيها الناس إن كنتم في شك من دينى فلا اعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن اعبد الله الذي يتوفاكم وامرت ان كون من المؤمنين ، وان أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ،

ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فانك إذا من الظالمين : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها وما انا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحي إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) يونس ( .

فالصورة التى يبدو فيها صاحب الرسالة في هذه المرحلة صورة واضحة مطردة تقوم على الدعوة إلى الله في رفق ، والصبر على اذي المخالفين ، والأعتصام بالله من إغوائهم وإغرائهم ، وتبين الرشد من الغي دون اكراه ، وإقامة الحجة بعد الحجة على وحدانية الله وعظمته وقدرته ؛

وتوجيه العقول إلي النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ ، ومجاهدة الكافرين جهادا كبيرا بالقرآن .

وتطرد هذه الصورة فيما قص الله على نبيه في هذه المرحلة من قصص الانبياء السابقين ، وما حل باقوامهم من عذاب

الله حين كذبوا رسله . وليس في هذا القصص ما يشير إلي ان الرسل السابقين حاولوا ان يفرضوا رسالات ربهم ، أو أن يكرهوا الناس حتى يكونوا مؤمنين ؛ وإنما كان الواحد منهم يجيء قومه منذرا ، داعيا إلى عبادة الله وحده ، فيكذبونه فيرسل الله عليهم عذابا من عنده مطرا جازفا ،

أو ريحا صرصرا عاتية ، أو رجفة تأخذهم فيصبحون في ديارهم جاثمين " لقد ارسلنا نوحا إلي قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ، قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين .

أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون . أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون . فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا باياتنا إنهم كانوا قوما عمين ) الأعراف ( . وإلى مثل هذا المصير صارت عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ، كل كذب الرسل فحق  عليهم عذاب الله

ولكنا نلمح في القرآن المكي إذ تسير الدعوة الإسلامية إرهاصا بالمستقبل ، وإنذارا بما سيحل بالكفار علي يد الرسول ، وتلويحا بأنه سيظفر بهم ، وينتقم للإسلام منهم " انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون . وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل . لكل نبأ مستقر  وسوف تعلمون " . . " وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين . إن ما توعدون لات وما انتم بمعجزين . قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " ) الأنعام ( . " فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن ادري اقريب أم بعيد ما توعدون " ) الأنبياء ( . " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم

لهم المنصورون ، وإن جندنا لهم الغالبون . فتول عنهم حتى حين . وابصرهم فسوف يبصرون " ) الصافات ( . وهذه النذر لا تلبث أن تتكشف عن وعد صريح للرسول بهزيمة المشركين : " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أما يقولون نحن جميع منتصر . سيهزم الجمع ويولون الدبر " ) ١ ( ) القمر ( .

ثم يأتمر الملأ بالرسول ليقتلوه فيهاجر إلي المدينة وتقوي شوكة الإسلام بالانصار ، ويأخذ النزاع بين قريش والرسول صورة اخري تتسلح فيها الدعوة بالسيف إلى جانب القرآن ،

وتنزل أول آية في الإذن بالقتال بعد ما نهي الرسول عنه في نيف وسبعين آية - كما يذكر المفسرون - اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " ) الحج ( . ومن هنا تبتديء الدعوة مرحلة جديدة في تاريخها ، ويخاطب القرآن أعداء الإسلام باللغة التي تفهمها عقولهم الجاحدة ، ويعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امنا ويشتري من المؤمنين انفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن اوفي بعهده من الله !

وإذا فقد وصلت بنا دراسة السور المكية في أمر الدعوة إلي أنها سارت السير الطبيعي الذي تقتضيه سنن الأشياء ، فبدأت مستضعفة رفيقة ، وتحمل صاحبها وأتباعه الكثير من صنوف الأذي والعنت ، وتمت كلة ربك في أن يقوم الدين على أساس الحجة والنظر ، لا على أساس الجبر والإكراه ولكن الثلاث عشرة سنة التى قضاها الرسول في مكة هيأته هو وأصحابه للمرحلة القادمة من الجهاد ، واعدت نفوسهم للذياد عن حمي الإسلام بالسيف ، وجعلتهم يتطلعون إلى اليوم الذي ينتصفون فيه لأنفسهم من اعدائهم ويكيلون لهم بكيلهم .

وكثيرا ما كان اصحاب الرسول يأتونه بين مضروب ومشجوج فيقول لهم اصبروا فإني لم اومر  بالقتال .

فلما هاجر نزل عليه الإذن ومعه علته ذلك بأن المسلمين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله

فالتاريخ المدني للدعوة - إذا - سيكون تاريخ جماعة مسلمة لها كيانها السياسي والاقتصادي ؛ لابد لها أن تعيش ، ولا بد لها أن تمكن لنفسها في الأرض ، وان تعد لأعدائها ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل ترهب عدو الله وعدوها ؛ ولابد لها ان تتقن فن الحرب ، وان تستعمل ما يستعمله المحاربون من رسم الخطط ، والتعرض لمرافق الأعداء ومحاولة التفريق بين صفوفهم ، والاستعانة بعقد العهود والمواثيق مع المحايدين ؛ ولابد أن تسير أمورها على مألوف السنن الكونية فتنتصر إذا آمنت بعقيدتها ،

وأحكمت تدبير أمورها ، وتنهزم إذا اغترت بمجرد كثرتها العددية ، او اغفلت تنفيذ ما يرسم قائدها العام من خطط سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .

للبحث بقية

اشترك في نشرتنا البريدية