اتباع النهج الواضح فى التأليف ، من أبرز الأساليب العلمية التى تضمن جودة البحث ودقته ، وبلوغ الهدف ييسر . لان السير على خطة واحدة ظاهرة المعالم ، تجعل الموضوع متماسكا ، تسلمه المقدمات ، ببراعة إلى النتائج ، وتؤدي النتائج إلى الهدف الذى يبتغيه الكاتب ولذلك نجد ان النهج هو أول ما يفكر فيه الباحث ، إذا اراد أن يبحث ، فيأتى بالبحث العلمي الصحيح .
وقل أن نجد عند مؤلفينا المسلمين ، فى الأعصر القديمة ، من عني بالنهج ، أي بوضع خطة واحدة ازمها فى كافة ابحاثه . فقد غلب على اكثرهم فى تآليفهم الاستطراد الممل ، وسرد ما لا علاقة الموضوع به .
ولعل مؤلفات الجاحظ - وهو اكبر الكتاب المؤلفين - مثال جيد للفوضى فى التأليف ، أي لعدم الترتيب ، وعدم التزام موضوع واحد ، وغلبة الاستطراد فى كل صفحة .
وما نجده عند الجاحظ تجده عند غيره . فأنت لا تصادف كاتبا باحثا قد قيد نفسه مخطة انيمها . لكنك تصادف من يبدأ السير من هنا ، ثم يعرج على اليمين ، ثم يعود من حيث بدا ، ثم يتقدم ، ثم يعرج شمالا . وانت بين هذا كله ، لا تدري متي تصل إلى غايتك ، أو تقع على طلبتك .
على أننا نستطيع أن نستنى من هضا التعميم ، فى عدم اتباع النهج ، علماء قلائل ، قيدوا أنفسهم بنهج واضح ظاهر ، منهم ( شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسى المعروف بالبشارى) صاحب كتاب أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم .
وقبل أن نتكلم على هذا النهج الذى اتبعه المقدسى
فى تأليفه الذى أشرنا إليه ، يحسن بنا أن نذكر أن هذا الكتاب مؤلف فرد ، قد لا نجد من ألف مثله . ومعنى ذلك ان المقدسى قد تفرد بفنه بالنسبة لمن سبقه . وقد لاحظ هو نفسه ذلك فقال :
" ووجدتُ العلماء قد سبقوا إلى العلوم فصنفوا علي الابتداء ثم تبعهم الاخلاف فشرحوا كلامهم واختصروه ، فرأيت أن أقصد علماً قد اغفلوه ، وأنفرد بفن لم يذكروه إلا على الإخلال "
ولكن ما هو الفن الذى تفرد به المقدسى ، ولم يسبقه إليه أحد ؟ يجيب المقدسى من ذلك فيقول: "هو ذكر الأقاليم الإسلامية ، وما فيها من المفاوز ، والبحار ، والبحيرات ، والأنهار ، ووصف أمصارها المشهورة ، ومدنها المذكورة ، ومنازلها المملوكة ، وطرقها المستعملة ، وعناصر العقاقير والآلات ، ومعادن الحمل والتجارات ، واختلاف أهل البلدان فى كلامهم واصواتهم والسنتهم وألوانهم ومذاهبهم ومكاييلهم وأوزانهم ونقودهم وصروفهم ، وصفة طعامهم وشرابهم ، وثمارهم ومياههم ، ومفاخرهم وعيوبهم ، وما يحمل من عندهم . وذكر مواضع الاخطار فى المفازات ، وعدد المنازل فى المسافات .. وذكر المشاهد والمراصد ، والخصائص والرسوم ، والصنائع والعلوم ، والمناسك والمشاعر"
فهذه الأشياء كلها جديدة ، لا نجدها كلها عند احد قبل المقدسى . وهذه الأشياء مجتمعة تجعل كتاب احسن التقاسيم أبرز الكتب فى التآليف الاسلامية ، التى لها شأن كبير فى تبيان ووصف الحياة الاجتماعية فى البلاد الاسلامية فى القرن الرابع الهجري.
وهذه الدعوة التى يدعيها المقدسى ، يدلل عليها بالحجة القوية والبرهان . فمن هم الذين سبقوه ، وقصروا عنه ؟
يقول : ... وكل من سبقنا إلى هذا العلم لم يسلك الطريق التى قصدتها ، ولا طلب الفوائد التى اردتها .
(( أما عبد الله الجيهاني فإنه كان وزير أمير خراسان. وكان صاحب فلسفة ونجوم وهيئة ، فجمع الغرباء وسألهم عن الممالك ودخلها ، وكيف المسالك إليها.
(( ألا تراه مرة يذكر النجوم والهندسة ، وكرة يورد ما ليس للعوام فيه فائدة ، وتارة ينعت أصنام الهند ، وطوراً يصف عجائب الهند ، وحيناً يفضل الاخراج والرد ، وهو لم يفصل الكور ، ولم يرتب الأجناد ولا وصف المدن. ((أما أبو زيد البلخى فإنه قصد بكتابه الأمثلة ، وصورة الأرض ، وهو مختصر ، وترك جزءاً من أمهات المدن ، وما دوخ البلدان ، ولا وطئ الأعمال.
(( وأما ابن العقبه الهمداني ، فإنه سلك طريقة اخرى ، ولم يذكر إلا المدائن العظمي ، ولم يرتب الكور والأجناد ، وادخل فى كتابه ما لا يليق به من العلوم، مرة يزهد فى الدنيا ، وتارة يرغب فيها ، ودفعة يبكي وحيناً يضحك." (( وأما الجاحظ وابن خرداذية ، فإن كتابيهما مختصران جدا ، لا يحصل منهما كثير فائدة .
(( فهذا ما وقع إلينا من المصنفات فى هذا الباب بعد البحث والطلب وتقليب الخزائن والكتب. " وقد اجتهدنا فى أن لا نذكر شيئا قد سطروه ، ولا نشرح امرا قد اوردوه إلا عند الضرورة ، لئلا نبخس حقوقهم ، ولا نسرق من تصانيفهم ، مع انه لا يعرف فضل كتابنا إلا من نظر فى كتبهم "
فمن هنا نري أن المقدسى قد ذكر من سبقه فى تصانيف كتب لها صلة بموضوعه ، فلا يجد غير الجبهاني ، والبلخي ، والهمذاني ، والجاحظ ، وابن خرداذية ، ثم ينقد كل واحد من هؤلاء ، ويبين ضعفه ويدل على علته . ليخلص من هذا كله إلى أنه قد انفرد حقا بفن . وانه أتني بما لم
يأت به غيره ، مما يجعل فى كتابه أصاله Originality لها قيمتها.
على أن انفراد المقدسى بفن لا يجعل له شاناً كبيراً جدا ، ولكن يجب أن نعلم أمرين: ١ - كيف عرض المقدس موضوع كتابه . وهل اتبع نهجا معينا أم لا ؟
٢-كيف جمع المقدسى مواد كتابه ، وما هى الوسائل التى اتبعها فى سبيل ذلك ، وهل وفق ام اخفق ؟ وهنا نجيب عن الأمر الأول ، لأنه موضوع مقالنا هذا. الحق أن المقدسى كان من أوائل المؤلفين فى الإسلام الذين اتبعوا نهجا معينا قيدواانفسهم باتباعه فى ابحاثهم. والنهج الذى اتبعه المقدسى ، ظاهر واضح ، تجده فى كل فصل يفرده على إقليم من الأقاليم التى تكلم عليها.
أما هذا النهج فهو كما يلى ١ - التعريف بالإقليم ٢- تقسيمه إلى كور ، والكلام علي كل كورة ، ووصف كل مدينة ٣ - جملة شؤونه ، ويدخل فى هذا: ٤ - المناخ ، الهواء ٥ - المذاهب ٦ - القرا آت ٧ - اللغة والألسنة ٨ - التجارات ٩ - الخصائص ١٠ - المكاييل ١١ - الأرطال ١٢ - النقود ١٣ - الرسوم ١٤ - المياه ، الأنهار ١٥ - العيوب ، المضار
١٦ - الألوان ١٧ - المعديات ١٨ - المشاهد ١٩ - المجال ٢٠ - القبائل ٢١ - الولايات ٢٢ - الخراج والدخل الضرائب والمكوس23- المساحة 24-
٢٥ - المسافات فهذا هو النهج الذي قيمه ، استطعت أن أثبته بعد أن استقريت كل ما كتبه فى كتابه . وهذا الهج مجسده فى جميع البلاد التى تكلم عليها . على أنه قد يخرج عنه فى بعض الآحايين ، فلا يذكر بعض اجزائه التى لا يوجد فى البلد الذى تكلم عليه ، أو يزيد عليه جزء لا يوجد فى بلد آخر . وتستطيع أن تعتبر هذا الهيكل الذي رأبته ، هو الهيكل العام تقريبا لجميع مباحته في كتابه . يتم
