ما هي دواعي الحرب ؟ وهل يمكن استئصال أسبابها بحيث يعيش البشر اخوانا متحابين ؟ هذا ما يفكر فيه الكثيرون في هذه الظروف الخطيرة القاسية التي نعيشها . وقد راينا ان ننشر رسالتين كتبهما عالمان شهيران مند سنه ١٩٣٢ فى هذا الموضوع مع التمهيد الذي ورد في مجلة " حقائق " الصادرة بباريس ( عدد ١٤٧ ) . الفكر
فيما يلي ننشر نص رسالتين الاولى من " البير اينشتاين " والثانية جوابا عليها من " سيكموند فرويد " وهاتان الرسالتان مؤرختان بسنة ١٩٣٢ - اي في مدخل الربع الثاني من هذا القرن - ذلك الربع الذي شاهد صعود نجم " هتلر " ثم افوله مع تدهور اوروبا جمعاء وميلاد " السلاح المطلق " الفتاك الذي يملكه الطرفان وكلاهما يرتعش فزعا من استعماله .
ومن خلال اسطر الرسالتين يتراءى للقارئ ما كان يفكر ويتوقع رجلان من عباقرة رجال هذا العالم وما هي الوسائل الناجعة فى رايهما لا تقاء الفاجعة الكبرى .
فالاول يكتفي بوضع السؤال في ميدان لا يكون علمه فيه اكثر من علم رجل الدهماء والاخر يجيب بدقة فكره المعهودة .
هذا يقول بوجوب احداث سلطة قانونية وعدلية تحل محل السيادة الفردية للامم وتكسبها رصانة وتعقلا ويتساءل لماذا لم يكن للعقل قوة فعالة ولماذا لا تنقاد الأمم للطبقة الحاكمة وباي وسيلة تقهر الغرائز وكيف يتسنى قطع دابر " الحاجة الى الحقد " التى تؤول الى نفسية جماعية .
والاخر يعرض على المجهر سلمية " أينشتاين " ويحللها دون اي لبس ولا
تضليل ويقول : كلا ان القوة ليست نقيضة القانون وما القانون في الحقيقة الا صورة محولة من العنف الذى لا مناص منه وعنف الفرد لا يقاوم الا باتحاد ضحاياه الذين يضعون كاساس لمجتمعهم الصالح ، والشعور بالصالح يقضي بتحويل السلطة لوحدة اوسع لكن جمعية الامم آنذاك لم تكن لها قوة في مستواها فلم تفض لتمازج خلاق لمجتمع ، ويؤكد فرويد ان دعوى القضاء على الميول الفتاكة عند البشر عمل بدون جدوى لكن لنا ان نتساءل هل من الممكن توجيه تلك الميول نحو ضرب من التعبير غير الحرب .
هنا يجيب فرويد بجواب مبهت . فهو من جهة يجيب دون خجل بوجوب اثارة عاطفة الحب عند البشر ويلتجي من طرف اخر الى وجوب فرض السلطة على ان تكون هذه السلطة بين يدي زمرة منتقاة من رؤساء ومفكرين سامين ياخذون بزمام الكتل والشعوب .
وهذه وسائل لا تتحقق الا بعد طول مدى ! لكن لا تقبل فكرة الحرب دون كراهية وهي مع ذلك تنبني عن " اساس حيوي " وآية ذلك ان التطور الثقافي المخالف للطبيعة من عدة نواح يجعل بعض رجال الساعة يشعرون حيال الحرب بغير شعور الترفع الادبى بل بتنافر جسماني .
وما هي السبيل لاكثار هذا النوع من البشر ؟ هنا يضع فرويد رجاءه البعيد في مفعول هذين العنصرين وهما نمو الثقاقة والخوف من نتائج الحرب المطلقة .
اما " اينشتاين " فانه لا يرى سوى مخلص ذي معقولية قاهرة يتمثل فى حكومة عالمية ويرى الخطر في ابقاء طبقة حاكمة وبائعي مدافع ماسكين بين مخالبهم الصحافة والمدرسة والمنظمات الدينية وبذلك يتحكمون فى توجيه الكتل ويرمون بهم نحو الحقد الذى تنشأ عنه الحرب - لكن الغرب اليوم لا تحكمه طبقة بل ان الاوامر التي تسطر التاريخ الواقعي والرأي العام الذى يوحى بها انما هى صادرة عن الدولة والاحزاب والشؤون التجارية واحيانا عن الكنائس لا عن تواطئهم بل نتيجة تنافرهم .
وشرح فرويد لشروط كل سياسة واقعية ينحصر في ان التناحر التقليدي بين القوة والقانون ما هو الا تطاحن بين ضربين من العنف .
ولم تمر اربع سنوات على تبادل الرسالتين حتى عمد هتلر لاحتلال مقاطعة " رينانية " فيصيح بباريس رئيس وزارتها : " سوف نجابه قانون القوة بقوة القانون " واذا ما اتخذنا تعبير فرويد لشرح هذه العبارة قلنا هذا تصريح يرمي الى مقابلة عنف الفرد بالعنف الناشيء عن تكتل واتحاد ضحاياه وبما انه ليس هناك وحدة فمعنى ذلك اننا نقابل مصفحات هتلر بصحيفة ورق خطت عليها بلاغة رائعة .
ونتوصل هكذا الى ما اتفق عليه الرجلان سلطة موحدة عليا فوق سلطة الشعوب ذات السيادة - وكلاهما يخشى عدم توفر القوة الكافية عند المشروع - وكيف يمكن ارغام الشعوب والجبابرة والطبقات الحاكمة على الخضوع للقانون المقرر ؟
فبينما يرجو العالم الفيزيائي انتصاب سلطة ذات صبغة ادبية نرى الباحث النفساني يامل الكثير من الفزع الذي توحي به الاسلحة الفيزيائية ويقول : " ان حرب الغد بمفعول تحسن آلات الفتك معناها فناء احد الطرفين وربما كليهما . " وعن ذلك تنشأ فكرة السلام الابدي يفرضه سلاح له من القوة ما يكفي لجعل السلطة المركزية مطاعة .
نحن في سنة ١٩٣٢ " واينشتاين " ياسف لتجرد الدولة العليا التي يرتضيها من قوة تناسب مقامها وهو يفتش عن تلك القوة ولا يجد شيئا واليه يرسل فرويد ( بتنبؤاته ) اليه وحده دون معاصريه وهو الذي كانت اكتشافاته سببا تحت طي السر والخفاء لتفرقع قادفة " هيروشيما " ثلاثة عشر سنة بعد تبادل الرسالتين
تلك هي المأساة والسخرية التي ينم عليها تحاور عبقريتين احداهما تبصر المستقبل بعين جلية والثانية تجهل انها تعني بخطابها الرجل الوحيد الذى يملك السر دون ان يعلم ذلك .
