الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 659الرجوع إلى "الثقافة"

أسرار النفس، للدكتور أحمد فؤاد الأهواني، ١٦٣ صفحة . مكتبة الآداب . القاهرة ١٩٥١

Share

هذا كتاب يتضح موضوعه من عنوانه ، فقد أراد به الأستاذ الفاضل الدكتور أحمد فؤاد الأهواني أن يذيع جوانب من أسرار النفس وان يكشف عنها الغطاء . وقد كانت النفس ولا تزال طلسما من الطلاسم وخاصة أمام من يريد التعمق فى أغوارها الداخلية، إذ يحس كأنما يدخل في غابات متشابكة، بل يحس كأنما يدخل في ظلام من ورائه ظلام .

وعلم النفس الحديث يحاول جاهدا منذ وجد أن يسلط أشعته على هذا الظلام حتي تنكشف لنا النفس بوعها ولا وعيها ، ويستهوي هذا النشاط العقلي كثيرا من الباحثين والقراء ، ومن لا يريد أن يقف على النفس البشرية عامة ونفسه خاصة . ومنذ زمن بعيد والدكتور الأهواني يبحث في هذه الأنحاء النفسية ويدرس ، ولذلك أقبلت على قراءة كتابه أريد أن أعرف ما عنده من جديد .

وقد رأيته يتخذ للكتاب موضوعات عامة مثل : الثقة، التقدم، اللائق والواجب، الظاهر والباطن، التحليل النفساني، الطموح، الحسد، الغرور، ونحو ذلك، وهو يسوق الحديث سياقا هادئا، يستلهمه من قراءاته النفسية وما عرفه عن مشاهير الأدباء والعلماء ويقف وفقات طويلة عند الفلاسفة، فيستنتج من سلوكهم وأقوالهم ما يحيك به حججه وأدلته . وينسج خيوطها، ويرم عقدها .

وحديثه فى ذلك كله ليس فيه عنف، بل فيه الدعة، وفيه هذا التشويق الذي جاءه من خبرته فى التربية والتعليم . ولعل ذلك ما جعل الغاية التربوية واضحة فى الكتاب، فهو يسعي إلى إنارة السبيل أمام الناس ليعرفوا أنفسهم وأنفس غيرهم .

والحديث فى النفس وأسرارها طويل، ولست ممن يؤمنون كثيرا بالحديث الجاف فى النفس الذي ينتهي إلى وضع القواعد والقوانين، ففي رأيي أن علم النفس ليس علما كاملا، لسبب بسيط، وهو أنه يقوم على تجارب فردية لا تفك عنها قواعده وقوانينه، ومن هنا كانت لا تثبت أن تشد حينما نلتقي بفرد جديد أو تجربة جديدة

والدكتور الأهواني لا ينحو في كتاب هذا نحو وضع القواعد والقوانين للنفس . وإنما ينحو نحو الحديث العام عن بعض صفائها وخصائصها في الأدباء والعلماء، والفلاسفة والناس من حوله . ولعل من الطريف أنه ساق أثناء ذلك مجموعة من اعترافانه . وهو يتحدث عن بعض مشاهداته أو تجاربه ، وهي اعترافات تذيع كثيرا من أسرار نفسه ، قبل أن تذيع أسرار النفس عامة ، ويستطيع من يتعقبها أن يوزعها على أدوار حياته فى الصبا والشباب والكهولة ...

فمن ذلك ماجري به قلمه ص ٨٢ إذ يقول : " في سن العاشرة أو نحو ذلك كنت أميل إلى قراءة القصص ، وكانت هذه الرغبة تدفعني إلي شراء الروايات وقراءتها فى الفصل المدرسي، حيث أضع الرواية على ركبتي في أثناء الدرس، حتى لا يضبطني المدرس متلبسا بقراءة رواية ومشتغلا بالإنصراف عن الدرس، فلما فترت الرغبة فى قراءة القصص والروايات اتجهت نحو قراءة أشياء أخرى أكثر جدا، ووقعت على هذه الكتب مما كان موجودا في البيت، وكان أبي مع أنه مهندس يقتني كثيرا من الكتب الدينية وبعض كتب الأدب مثل الأغاني ، وقرأت وأنا فى الثانية عشرة الأدب الكبير لابن المقفع، فكان له أعظم الأثر فى حياتي

الأدبية وفي تكوين ذوقى ، وقرأت كذلك مما وجدته أمامي نهج البلاغة" .

ويظهر أن سن الثامنة عشرة كانت موضع تحول واسع في نفس الدكتور الأهوانى، فنحن نراه يسترسل في ص ٥٠ فيقول : " في الثانية عشرة كنت أفرض الشعر ، وهو شعر على أي حال لست أدري اموزون هو أم ليس موزونا ، ولكني أذكر أنه كان هجاء فى بعض الزملاء ، وكنت أحب أن أقرأ الشعر وأحفظه ، حتى إذا تقدمنا في الدرس فرض مدرس اللغة العربية علينا شعرا سقيما لا تقبله نفس ناشئ في السنة الأولى الثانوية . وهل يستطيع تنفيذ صغير أن يتذوق قصيدة بديع الزمان (أفأعلم لو شهدت ببطن خبث) فضلا عن فساد الشرح ، وانتهي الأمر إلى كراهة الشعر والانصراف عنه إلي درجة أنني لا أستطيع أن أمضي في قراءة قصيدة إلى نهايتها ولا أحفظ إلا البيت والبيتين" .

وكما كانت عنده نزعات في هذا الوقت إلي قرض الشعر أماتها فى نفسه أستاذ اللغة العربية وكانت عنده نزعات أخرى إلى تعلم الموسيقي ، ولكن أباه لم يشجعه عليها ، بل كان يزجره عنها ، يقول ص ٥١ : " ورغبت فى الصغر إلى تعلم الموسيقي ، وتعلمت الكمان وكان المدرس يعزف المقطوعة مرة واحدة ، فيلتقطها ذهني ، وأعيدها بأصابعى، حتى بلغت درجة لا بأس بها، فهل تدري من قتل في نفس هذا الميل وصرفنى عن هذا الفن ؟ إنه والدي - رحمه الله - كان يقول كلما رآنى أحمل الكمان ذاهبا إلى الدرس ، هل تريد أن تصبح آلاتيا ؟ وكان أهل زمان يعدون الفنون الجميلة كالتمثيل والموسيقي والرسم ضروبا من اللهو والفسق والمجون فضلا عن مجادتها لروح الدين . وهذه نظرة خاطئة، لم تتعدل حتى الآن تعديلا تاما " .

وتتبع الدكتور الأهواني فى كتابه فإذا هو فى امتحان البكالوريا ( ص ٨ ) أمام لجنة الامتحان ، وهى لجنة اللغة العربية . ولم يكن يحفظ من الشعر شيئا إلا هذين البيتين لجرير:

إن العيون التى فى طرفها حور         قتلتنا ثم لم يحبين قتلانا

يصر عن ذا اللب حتى لاحراك به         وهن أضعف خلق الله إنسانا

وسأله الممتحن ماذا يحفظ ، فأنشده البيتين ثوا ، واستحي الممتحن أن يسأله عن معناهما، فأجازه، ودعاء إلى الانصراف . وبعد ذلك نلتقي به فى الجامعة (ص ١١٥) بين يدي أستاذنا المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق يقتبس من علمه ومن خلقه . وما تزال حتى نراه أستاذا فى الجامعة (ص ١٠٠) والطلاب من حوله يسألونه فى مشاكلهم النفسية ، كما نراه ( ص ١٠٣،٩٨ ) آخذا فى معالجة بعض المرضى العصبيين والنفسين . وأثناء ذلك تجده يذكر ( ص ٩ ) كريمته التي كان يتأمل فى طرفها وهى فى المهد فيجد لمدة كبيرة . وفى ص ١٢٧ يشكو من الخدم وما يعانيه منهم . وبجانب ذلك يذكر فى ( ص ٦٩ ) كتابه ( فى عالم الفلسفة ) كما يذكر فى ( ص ١٥ ) أنه عاصر السينما فى عهدين : حين كانت صامتة، ولما تطفت . ومن حين لآخر يعرض علينا مشاهداته فى رحلة له إلى أوربا قبل الحرب الأخيرة ، فتارة يتحدث عن باريس ( ص ٢٠٠١٨ ) ، وتارة عن إيطاليا ( ١٣٥ ) .

أليست هذه مجموعة طريفة من الاعترافات ألقاها الدكتور الأهوانى أثناء وصف بعض حوادثه النفسية، وهي تلتقى فى الكتاب مع بعض التجارب التى مرت به ، وهو يحدثك عن ذلك حديثا صادقا لاخداع فيه ولا اصطناعا التكلف أو تحمل .

اشترك في نشرتنا البريدية