الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 122الرجوع إلى "الثقافة"

أشواق

Share

يقول تولستوى فى خطاب كتبه إلى الأديب الفرنسى الكبير رومان رولان : إن الفن لا يصح أن يكون مهنة ، ولكنه إلهام وموهبة ، ولا يكون الالهام إلا حيث تتمثل التضحية ، فان العازف (( لولى )) الذى ترك الخدمة فى المطبخ ، وخرج يعزف على قيثارته ، قد أثبت بالتضحية أنه ملهم . أما طلبة معهد الموسيقى الذين يقومون بدراسة ما يعطون من دروس فلا يقال عنهم

إنهم من الملهمين ، لأنهم أناس يستفيدون من وضع معين قائم ويعملون فى وضع معين قائم ، ولا يعرف الالهام ويثبت بغير تضحية ؛ بل إن الفنان الحق ليضحى على حساب راحته جريا وراء إلهامه وغيرة على فنه .

وهذا كلام قد يقبله بعض الناس ، وقد يرده آخرون . ولكنك على أى حال تستطيع أن تتمثله تماما فى شخصية الشاعر محمود أبو الوفا صاحب (( أشواق )) ، فهو شاعر ملهم لا شك فى ذلك ؛ وهبته الطبيعة أكثر مما أعطاه العلم ، وخدمته الفطرة أكبر مما منحته الكتب ؛ فهو يزجى الشعر من صميم قلبه وأعماق وجدانه ، نغما خالصا مفعما بالحب والعطف والحنان ، يرتفع به من الامتهان ، ويضن به على التبذل ! حتى لتجده من هذه الناحية ينسى

ذاته ، ويدوس أنانيته ؛ وليس هناك ما يطلب إلا الحرص على كرامة فنه ، أعنى كرامة مواهبه ونفسه .

ولقد أصدر أبو الوفا فى هذه الأيام - وهى ما هى - ديوانا سماه (( أشواق )) كما أخرج من قبل (( الأعشاب )) و (( أنفاس محترقة )) . ولقد ضمن (( الأشواق )) جملة طيبة من القصائد والمقطوعات التى فاض بها شعوره ، وتدفقت من إحساسه - ولا أقول من قريحته - فى فترات متباينة ؛ وهو قد قسمها إلى أقسام تتوزعها ثلاثة عناوين : غنائيات ، وتأملات ، وقوميات ؛ ولكنها فى الواقع تتلاقى كلها عند وضع واحد وطابع واحد ، وهو الطابع الذى يرتضيه ذوق أبى الوفا دائما ، فى تنقيم الأداء ، وصدق الاحساس ، والوضوح والصراحة ، لا تتبين ذلك فى بعض قصائده أو مقطوعاته ، بل نفسه فى كل شطر وفى كل قافية له ، ومن ثم كان شعر أبى الوفا جميعه مما يصح أن يتغنى به ؛ ولا عجب فقد جرى كثير منه فى أفواه الأفذاذ من المغنيين ألحانا مشجية تشبع الروح ، وتغمر العواطف ، وترتفع بالنفس . .

وأنت إذا بدا لك أن تتبين شخصية أبى الوفا وروحه فى شعره فاقرأ قصيدته (( قلب فنان )) ص ٧٠ من الأشواق - إذ يقول فيها :

أنت الطبيعة بل أنت الحياة إذا

                      ما صورت فتنة فى شكل إنسان

أهواك أهواك فيم اخترت مظهره

                      ما لى اختيار وما لى فيك عينان

من أنت ؟ من أنت ؟ قولى لا محاذرة

                     فقد وهبتك إسرارى وإعلانى

فتحت صدرى لحب الناس قاطبة

                     من أجل حبك يا روحى ووجدانى

أمشى وكفى على قلبى أقول : ألا

                       من راغب فى فؤاد صادق حانى

يحب حتى كأن الأرض ليس بها

                       إلا زنابق من آس وسوسان

بل ليس فى الأرض من بغض ولا إحن

                       وليس فى الأرض من ظلم وطغيان

فلا وربك هذا القلب ما التفتت

                       عين إليه ! فيا للبائس العانى

قد عاد ينكرنى قلبى وأنكره

                       حيران فى التيه يمشى خلف حيران

كلاهما وهو منقاد لصاحبه

                       حرب له فهما إلفان ضدان

يا طير لا تخش مني الآن عادية

                       لا تخش يا طير منى أى عدوان

فى الروض لى صاحب من أجل خاطره

                       كل الطيور أحبائى وخلانى

ليليلى ولعينيه وطهرهما

                      وهبت للطير تحنانى وغفرانى

فديتها من صقور فى مخاليها

                      لون الدماء ومن بوم وغربان

هيهات يلقى زمانى الآن فى خلقى

                      ما يستحل به لومى . . . كانسان

فمن ذلك الذى يكون من العطف حتى يرى الأرض وليس بها إلا الزنابق والسوسان ؟! ومن ذلك الذى يكون من الاباء حتى لا يحتمل على نفسه لوم الزمان ؟ ! إنه من غير شك لا يكون إلا الشاعر الملهم ، والفنان الموهوب .

اشترك في نشرتنا البريدية