الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 705الرجوع إلى "الثقافة"

أصداء أدبية :, حول كتاب " محمد " لتوفيق الحكم

Share

ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام ١٩٣٦ وقد أخرج توفيق الحكيم قبله عدة كتب ولا زال ينتج لنا بين عام وعام كتباً ما بين مسرحيات وأقاصيص تحتل المركز الأول فى عالم الأدب . . ولا زال يعيد طبع ما نفدت نسخة من كتبه مرة أخرى ، ولا زالت هذه الطبعات تلقى من الرواج مثل ما لقيت أول أمرها بالظهور . . ولا عجب فى هذا ، فتوفيق الحكيم كاتب متميز له شخصيته الواضحة فى كل ما يكتب ، وقد أحب جمهور قارئى الأدب طابعه وتذوقوه فى سهولة ويسر ، فمضوا يستزيدون منه فى إقبال وشغف . وإعادة طبع ( محمد ) هذا الشهر نؤيد هذا الكلام ونقوم دليلا على صدقه ، كما أنها تقوم دليلا على شئ آخر يفوق هذا فى الخطورة والأهمية ، فإعادة طبع الكتب القديمة دليل على إفلاس الطليعة من الأدباء فى الإنتاج ؛ وما تلقاء هذه الكتب من رواج وتحدثه من ضجة يشير بوضوح إلى أصالة هذا الإنتاج وخلوده ، فإذا ما قرنا هذا بما يملأ السوق الأدبية من إنتاج جديد يموت أثر طبعه مباشرة ، وحظه من الرواج يساوى حظه من الخلود ؛ وسرعان ما يظهر أديب جديد ، وما يكاد يظهر حتى نشيعه إلى قبره ونضم رفاته إلى رفات غيره ممن سبقوه ، عرفنا علة هذه الظاهرة التى تبدو واضحة فى كتاب توفيق الجديد الذى أعيد طبعه ( محمد ) ، فأنت إذ تقرأ الكتاب تحس بما بذل توفيق من جهد وما عانى من مشقة .

سيرة الرسول سيرة محفوظة معروفة يعرفها الصغير قبل الكبير ، وما كانت تحتاج من المؤلف أكثر من إجراء القلم على الورق وخصوصاً وهو لا يؤرخ وهو يكتب فى السيرة الشريفة محققاً ناقداً ، وإنما هو ينتح عملا فنياً معتمداً على السيرة ، ولكنك تلمح فى ( محمد ) كتب السيرة وكتب

التاريخ وكتب الحديث تبدو واضحة فى كل سطر من سطورها ، دليلا على اطلاع المؤلف الواسع فى كل ما يختص بموضوعه ؛ من هنا جاء خلود هذا الكتاب وما يماثله من كتب ومن هنا أيضا يتضح سر انهيار الأعمال الجديدة وفشلها ؛ فأدبإؤنا الجدد لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتنقيب ولا مشقة الدرس والتحليل ، وإنما يجدون فى أنفسهم الجرأة الكافية التى تسول لهم أن يتخذوا من أى موضوع مادة لهم سواء عرفوا عنه شيئاً أو جهلوا ما يتعلق به كل الجهل

وأنت إذ تقرأ ( محمد ) تلمح توفيقاً أمامك يزيل لك العوائق ويعيد لك الطريق فتسير أنت فى قراءتك مندفعاً فى سهولة ويسر ، وقد حملت السيرة العطرة نفسك معها حتى النهاية دون أن تلقى عناء أو تجد مشقة ؛ فالحكيم يتميز بذوق مرهف ينتقى لك زوايا يلتقط منها صورة التى يعرضها عليك فتبدو هذه الصور أليفة عندك حبيبة إليك . . وقد رتب توفيق عمله ترتيباً تاريخياً لا تقديم فيه ولا تأخير ، وانتقى من كتب السيرة والحديث ما يوائم ذوقه من روايات اعتمد عليها اعتمادا ًكلياً فى بناء كتابه ، بالرغم مما فى هذا من خطورة تاريخية ، إذ قبل أشياء كثيرة فى صحتها شك كبير كأحاديثه عن معجزات الرسول وبركته كقصة شاة أم معبد (١) وحديث عمير (٢) ، وهذه المعجزات لا تزيد قدر الرسول فى شئ فليست رسالة محمد رسالة معجزات ، وإنما هى رسالة منطق وإقناع ، وينهض عذر واحد لتوفيق الحكيم فى هذه المسألة وهو أن الكتاب لم يقصد به التاريخ ، ولكن الذى نفهمه أن يكون الكتاب - ما دام عملا أدبياً - يعبر عن شئ معين يريده الكاتب ، ولكن الكتاب لا يعبر

عن رأى خاص لتوفيق الحكيم فى محمد فأنت ترى فيه متناقضات جمعها توفيق ببساطة ؛ فالرسول تارة رجل لا يؤمن إلا بمنطق الأشياء . ويحكم العقل ويطلب من الناس تحكيم العقل ، وهو تارة أخرى رجل معجز ، يصور توفيق الحكيم مرة فى ثوب الرجل العادى يستشير الناس فى أمره ، ويألم لهزيمة ويفرح لنصر ويبكى لعقد ولده ويصوره تارة أخرى رجلا لا كالبشر يعرف الغيب ويرى ما لا يراه الناس ، ويحلب شاة لا تدر ، ويحول ثمرات قليلات إلى غذاء يكفى جيشه بأجمعه .

الكتاب فيه مجهود ضخم لا شك بذل فى التنقية والاختيار والترتيب الهندسى ، ولكنك تسأل نفسك إذ تنتهى منه : ماذا يريد المؤلف أن يقول :

هل يريد سرد الوقائع وحسب ! إن هذا ليس عمل الأديب ، بل هو إلى عمل المؤرخ أقرب ، وتوفيق ليست فيه دقة المؤرخ ولا تحقيقه . .

هل يكفى للأديب أن يختار الروايا التى يلتقط منها صوره فيحسن الاختيار ، ويحول الروابات التاريخية المعقدة الأسلوب بما فيها من أسانيد و ( هنات ) إلى حديث سهل عذب ؟ وهل يكفى للعمل الأدبى الناجح أن يلمح فيه ما بذل الأديب من مجهود ضخم وما تحمل من عناء دون ان نرى فى خلاله الأديب نفسه ؛ أنت تحس حين ثقرأ أن إحساس الكاتب بما يكتب قد انزوى فى طوايا المجهود والترتيب . وأنت تستطيع أن ترى فى الكتاب رسمياً لعمارة ضخمة ، جميلة حقاً ، فيها ذوق هندسى مرهف . ولكنها بالرغم من جمالها وروعتها لا تعبر عن شئ مما يحسه المهندس ولا نحكى شيئاً مما ينفعل به . .

ولم يبرز توفيق شيئا إبرازه حب ( محمد ) للنساء (١)  وغيرة عائشة من باقى نساء النبى وقد يمكن أن نقول هذا رأى للحكيم لولا أنه لم يعتن بإبرازه إلا فى فصل أو منظر من فصل ، مما يجعلنا نضيفه إلى ذوق الحكيم فى اختيار الروايات لا إلى رأى يريد إبرازه ، إذ لو كان هذا لجعله هدفا يتضح وغرضاً يقصد إلى إبرازه لا مجرد منظر يأتى عرضاً وسط

كثير من الأشياء لا أثر له فى تصرفات شخصيته التى يرسمها .

ولعل هذه سمة تبدو فى أعمال توفيق الحكيم المسرحية ، سمة المهندس الذى يرسم ويصمم ، سمة الرجل الذى يدرس ثم يكتب نتيجة ما درس مطبقاً ذلك على ما تعلم من قواعد فى فن المسرحية .

لقد قرأ كثيراً وسمع كثيراً وشاهد كثيراً من الآثار الفنية . ولكنه حين أنتج نسى أن الداخلين فى محراب الفن لا يفتحون عيونهم ويوقظون أذهانهم فحسب ، بل ينبغى أن يفتحوا قبل كل شئ قلوبهم . ولعله فى هذا لأنه وضع فى رأسه أن الفن هو العمل الخالد الذى شهد منه نماذج فى كل ركن من أركان باريس - صاحبة الدور الأول فى حياته الفنية - فغدا مهندسا يقيس ويحدد ثم يرسم بالمسطرة والبرجل ، وبين المسطرة والبرجل أنزوى الحكيم نبحث عنه فلا نجده .

وبعد فهذا فهذا حديث أردت أن أسوقه بمناسبة ظهور الطبعة الجديدة من كتاب ( محمد ) هذا الشهر ، وكم نود أو عادت كل هذه التحف القديمة لكتابنا الكبار مرة أخرى تغمر السوق الأدبية وترسم لأدباء الشباب طريق العمل وتريهم نماذج حية من حق الأدب على الأدباء . .

اشترك في نشرتنا البريدية