اطلعت في هذه الأيام وأنا نزيل مصر المحروسة ، في مجلة "الثقافة" الغراء ( عدد ٦٣٤ ص ١٦ ي ي ) على مقال لغوي قيم عنوانه "التلميذ في لغة العرب" قد دبجته براعة الأستاذ عبد الغفور عطار ، وإذ كنت من معالجي تأصيل الألفاظ ، وقد بحثث عن أصل هذه المفردة في تضاعيف نقدي لرسالة "الألفاظ السرانية في المعاجم العربية" لواضعها البطريرك أفرام برسوم ، المقيم في حمص سورية ، ذاك النقد للزمع أن ينشر في تأليف لي جديد عنوانه "معجميات عربية - سامية" ينتهي طبعه قريبا في مطبعة المرسلين المبنانيين ( جونية - لبنان)، رأيت من المناسب زيادة في الفائدة انتهاز الفرصة لتلخيص رأيي في أصل هذه اللفظة الواردة في اللغة العربية ، منذ الأحقاب القديمة ، وقد زعم بعض الأقدمين والمعاصرين أنها غير عربية ، ودخيلة إما من السريانية ، وإما من العبرية ، على أنها في نظري سامية ، لورودها في سائر السن بني سام ، وتأصيلها على ضوء الثنائية ، والألسنية السامية ، يثبت أن تجارها الأول من العربية نفسها ، التى لها الفضل العميم ، والتفوق السامي على سائر أخواتها ، لغناها بالرساس البدائية . وقبل تبيان ذلك بالتنسيق والتعليل ، نسرد مختلف صور المادة ومعانيها الأسمية والفعلية في هذه الألسنة ، لتكون مجالا للتحقيق .
في السريانية : " لتعد " : جمع ، ضم ، أضاف - " تلميذ : هذب ، علم ، أرشد - "تلميذ" : طالب علم ، متعلم - في الأرمية "تلميذ" : طالب علم - في المندائية : " ترميدا " (بالراء يدل اللام): تلميذ - في العبرية : " لامد " : ضرب بالسياط ، عاقب ، روض - " تلميذ" مهماز يضرب به للترويض ، خاصة الحيوانات - " تلمود " : تعليم ، نظرية - "تلميذ"، متعلم، دارس - في الحبشية : "لعبد": تعود ، ألف واظب - " لمود " : متعود ،
أليف - "لعاد" : عادة ، طبع - "تلميذ": طالب علم ، دارس - في الاكندية : " لمادو " تعلم ، عرف - " لمادونو : تعلم ، عرفان - " ملمدو " : معلم ، أستاذ - " تلميدو " : دارس ، طالب علم - في العربية : " لمد " : نواضع له بالدال - "لمده" : لدمه (بالقلب) - "تلميذ له ، وتتلمذ" : صارله تلميذا ، تخرج عليه - "التلميذ " : المتعلم العلم ، أو المهنة .
تنسيق وتعليل
١ - الرس الثناني مبدأ التطور المعنوي ، في هذه المادة ، هو "لد" العربي ، الدال على الشدة ، ولا سيما في الخصومة . ويشبهه في الدلالة "لت ولط" .
٢ - من الثنائي "لد" اشتق الثلاثي " لدم " بزيادة الميم تذيبلا ، ومعناه : ضرب بكلنا البدين ، ومثله : "لم ولطم".
٣ - في العربية أيضا قد قلب " لدم " إلى " لمد " منذ العصور القديمة . وذلك مؤيد بالفعل العبري" لامد" الذي فحواء الوضعى : ضرب بالسوط للاخضاع والتذليل ، وخاصة الحيوانات ، قصد ترويضها وكسر شوكتها بالمهماز المسمى في العبرية "تلميذ" .
٤ - من هذا الترويض الذي يتم يتكرار العمل ، نشأ مدلول التعود والتطبع ، والتألف ، وبهذا المفهوم ورد " لامد " في العبرية ، و"لمد" في الحبشية .
٥ - من الترويض البدئي والتعود ، انتقل المعنى إلي الترويض الأدبي ، أى التهذيب ، والتثقيف والتعليم، والإرشاد ، من ذلك منطوق " لعادو " في الا كدية ، أي تعليم ، و"ملمدو" : معلم .
٦ - في السريانة : تتوج الفعل بناء فجاء "تلميذ"
(البقية على الصفحة التالية)
على وزن " تفعيل " . ومداوله : هذب ، علم ، أرشد وورد في العبرية "تلمود" : تعليم ، نظرية . ومنه الكلمة الجاري البحث في تحقيقها ، والواردة في كل اللغات السامية ، وهي : "تلميذا" في السريانية و "ترميدا" في المندائية ، و"تلميذا " في الأرمية ، وتلميدو " في الأكدية ، و"تلميذ" في العربية ، و"تلميذ" في العبرية والحبشية .
٧ - أما " لمد " السريانى ؛ فرأينا اعلاه ، أنه يعنى : " جمع ، ضم ، أضاف " فهل ياترى هو ، كما يدعى بعضهم ، أصل كلمة "تلميذ"من العمر ، والحق يقال ، أن نجد لحمة أو علاقة معنوية بين هذا الفعل وهذا الاسم ، إن الماجم السرانية تورد " تلميذا " في مادة "لمد" الا معجم القرداحي . فإنه يفرق بينهما بوضعه " تلميذ" في المادة المبتدئة بالتاء و "لمد" في المادة التي فاؤها لام فذلك يعنى أنه لا يفترض اشتقاق الاسم "تلميذا" من الفعل "لمد" وهذا ، في نظرنا ، عين الصواب ، لأن
"لمد" بمعنى "جمع ، ضم" صادر من الثنائي "لم" بزيادة الدال تذييلا . أما "تلميذ" فهو وارد في الساميات بأجمعها ، واشتقاقه طبيعي من الثنائي "لد" المتوسع في الثلائي " لدم " المقلوب إلى "لمد" والدال خاصة في العبرية من باب الوضع ، على الضرب والترويض ، وفي العربية على التواضع بالدل ، ومن باب المجاز على التهذيب ، والتعليم ، والتدريس ، والتلفين ، في العلم ، والمهنة .
فالناجم عن هذا البحث ، وعن كثير من أمثاله ، أن المقارنة الألسنية السامية إذا طبقت على الساميات بأسرها تزيل المتنافر والتضارب ، وتثبت المنطقية في الاشتقاق اللازم بدؤه من "الرس الثنائي" ، والعائد بالنفع الجزيل على المعجمية السامية عموما ، وعلى المعجمية العربية خصوصا .
يعتنقه بمسلمات كثيرة ، يستمد منها في آرائه وأحكامه .
وانظر في القياس مثلا ، أليس بتركب من فضيتين تسميان مقدمتين ، ثم نتيجة ؛ وإذا تأملت في القضيتين الأوليين وجدت أن أرسطو يسلم بهما تسليما ثم يخلص إلى النتيجة ، كأن المقدمتين من الضروري أن تكونا صادقتين .
ولعل هذا ما جعل الاستدلال عند أرسطو استدلالا استنباطيا ، يقوم على "يديهيات" و "لا معرفات" لا تشفع برهان ولا ما يشبه البرهان . وهذه كلها مخالفات صريحة لقواعد العلم التجربي الذي لا يؤمن بغير المشاهد ولا يحتكم إلا إلى الواقع.
ومن هنا ارتاب العقل الأوربي الحديث في كل ما جاء به أرسطو ، وأخذ يناقش قوانين منطقه ، ويعرضها على العلم وأساليبه الحديثة . وقد فزع العلماء والفلاسفة حين انتهوا إلى أن المنطق الأرسطوطاليسي لا يصلح للعقل الحديث . قد يصلح للعقل الميتافيزيقى أو العقل الرياضى الذين يستمدان من مسلمات ، ولكنه لا يصلح للعقل العلمي التجربي الذي لا يؤمن بغير الواقع ، والذي لا يعتمد على استدلالات استنباطية ، ولا على أفكار عقلية خالصة.
ويذهنية العقل الحديث أخذوا يفحصون كل مخلفات أرسطو المنطقية ، ووضع يكن الأورغانون الحديد ، وناقش في حدة طريقة أرسطو في الاستقراء ، ورأي أنه لا يمكن البرهنة على أي قانون بعدد من الأمثلة المؤبدة ؛ فلابد أن ترجع للأمثلة السالبة ، ولابد أن تنتظم الشواهد التى تجمعها للاستقراء تنظيما جديدا
ولم يكتف العقل الحديث يبحث النتائج الكبيرة التي وصل إليها أرسطو في القياس والاستدلال ، بل أخذ ينظر في جميع الشعب والفروع التي ادته إلي نتائجه ؛ فبحث في الحدود والقضايا أبحاثا مطولة . وكتاب المنطق الوضعي للدكتور زكي نجيب محمود هو معرض حافل لهذا البحث وما يتشقق منه ويتفرع عليه .
ومهما أثنينا على جهده في هذا الكتاب فان نوفيه حقه ، إذ استطاع أن يجمع فيه كل الآراء المنطقية الحديثة ، وان يصوغها في العربية صياغة الحاذق الماهر . وليس هذا فحسب ، بل لقد سوي كتابه ليخدم ذهننا الحديث ، وليتناوله من الوهاد الأرسطوطاليسية التي قد يتردي فيها ، ويرفعه إلى قمم الفكر الغربي الذي لا يؤمن بمقدسات سوي العلم التجربي ، واستمع إليه يقول في مقدمة الكتاب: "أنا مؤمن بالعلم كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه ولا على الناس شيئا ؛ وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه ؛ فإن كان نتاج العاطفة من فن وأدب وما إليهما قد صاحب المدنية الإنسانية في كل أدوارها فلأنه علامة تدل على وجودها أكثر منه عاملا من عوامل إيجادها .
"ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة - والوضعي المنطقي الجديد بصفة خاصة - هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم ، فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه ، وطفقت انظر بمنظاره إلى شتى الدراسات ، فامحو منها لنفسي ما تفتضيني مبادئ المذهب أن أحموء ". وعلى هذا الأساس انطلق الدكتور زكي نجيب محمود يمحو الميتافيزيقا أو يحاول ، لعله يستطيع أن يقيم في عقول شبابنا دعائم التفكير العلمي الوضعي .
وقد بدأ منذ السطور الأولى في الكتاب يقسم القضية في المنطق قسمين : قضية تركيبية ، وقضية تحليلية : أما أولاهما فهي التي تعظينا علما جديدا ، كأن نقول مثلا : إن الضوء يسير بسرعة ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية، وأما الثانية فلا تعطينا شيئا لأنها تكتفي بتكرار عناصر الموضوع كقولنا مثلا : إن الأرامل كن متزوجات ؛ فالتعبير بكلمة "كن منزوجات" لا يضيف علما جديدا ، إذ لو طلب إلينا أن نعرف الأرملة لقلنا إنها التى كانت متزوجة ؛ فنحن لم نقل شيئا ، غير أننا ذكرنا الحقيقة ثانية بكلمة مساوية لها .
فالقضية التحليلية تحصيل حاصل ، إذ تصف الشئ بما يساويه . ويضع الدكتور زكي في حقائب هذه القضية كل قضايا الرياضة لسبب بسيط ، وهو أنها تتركب من معادلات ، والمعادلات تقوم على تقرير التساوي بين صبغتين .
أما القضية التركيبية فتفيدنا علما جديدا ، إذ تغبئنا بأخبار لا تعرفها . ويضع الدكتور زكي في حقائب هذه القضية كل قضايا العلوم الطبيعية التى تقوم على الاستقراء ، لا على الاستنباط من الفكر الخالص ، كما هو الشأن في القضايا الرياضية .
ويقف الدكتور زكي مع العلوم الطبيعية أو قل مع العلم التجربي في كل جوانب بحته ، ويثبت دائما أنه هو العلم الذي يستطيع الإنسان أن يسلم به . أما غيره من العلم ، فلكل أن يقول فيه كما يريد ، ولكل أن يذهب فيه الذهب الذي يستطيع أن يستنبطه ، وإنه ليرفض أثناء ذلك أن تسمى الأبحاث الإنسانية علوما ، لأن القضية في رأيه لابد أن تخضع للتحقيق بالمشاهدة وإجراء التجارب ، وإلا وجب حذفها من ثبت العلوم . واستمع إليه يقول ص ٤٥٤ : "إنه لا غرابة أن تتقدم العلوم الطبيعية بخطوات الجبابرة وتظل العلوم الإنسانية راكدة أو كالراكدة ، لأن الأمر فيها لا يزال (كلاما في كلام) ولا سبيل هناك إلي تأييد أو تفنيد ما يقول المتكلم من هؤلاء إلا بكلام آخر" وفي مثل هذه الحال لا تعرف الحقيقة ولا تصل إلي قطع في شيء ، ويضرب مثلا بطريقة الاستبطان في علم النفس ، تلك الطريقة التي تدور على ما يجري في بواطن النفوس ، ويقول إن القضايا في هذه الطريقة تخرج من نطاق القضايا العلمية خروجا تاما ، لأننا لا نستطيع التحقيق منها بمشاهدة ، ولا بتجربة ظاهرة .
ولم يحاول الدكتور زكي أن يهدم العلوم الانسانية وحدها ، بل حاول أيضا أن يهدم الميتافيويقا كما قلنا هدما ، لأنها في رأيه تتحدث عن معان كلية ، ليست بذات أفراد في هذا العالم : عالم الأشياء الجزئية ، فهي تتحدث إذا عن كلمات فارغة ، ليست ذات حصيلة معينة . يقول ص ٤٠٠:
"والذي تحب أن نعبده وتكرره حتى يرسخ في الأذهان ، ولن تمل من إعادته وتكراره - هو أن الكلام الذي يحتوى على لفظة دالة على فئة فارغة يتساوي فيه النفي والإثبات . ولما كانت القضايا الميتافيزيقية كلها تحدثنا عن فئات فارغة - ذلك يحكم تعريف الميتافيزيقا نفسه ، لأنها أقوال تتحدث عما لا وجود له في الطبيعة - فإن كل قضية ميتافيزيقية بتساوي فيها الإيجاب والسلب ، ومن ثم نستطيع أن تري العبث الذي لا طائل وراءه في المناقشات الميتافيزيقية " والدكتور زكي محق في هذا الكلام حين يقيس الميتافيزيقا بقياس العلوم التجريبية ، فمن حقه أن يذهب إلى أن كلماتها كلية وأنها فارغة ، بمعنى أنها لا تخضع للتجربة والمشاهدة ، ولكن ليس معني هذا في رأينا اننا نستطيع ان تهدم قضاياها ولا أن نرفضها لأنها ليست ذات رصيد مشاهد ، محقق في الحس الظاهر ، تحقق فضايا العلوم الطبيعية أو العلوم التجريبية .
فلنفسح لكل قضايا عقلية مبادئ نشاطها ، ولتبق لكل منها على مبادينها . لنبق للعلوم الرياضية مبادينها ، ولنبق للعلوم الإنسانية مبادينها ، ولتبق للميتافيزيقا مباديتها ، ولنفر بجانب ذلك ميادين العلوم الطبيعية ، وإذا كان للأخيرة رصيد مشاهد في الحس ، فللأخري رصيد ليس مشاهدا ، ولكنه يقترب على درجات مختلفة من مناطق المشاهدة ، وهي مشاهدة ذهنية أحيانا كما في الرياضة والعلوم الإنسانية ، وروحية كما في الميتافيزيقا .
ومهما يكن فنحن نرحب بهذا الكتاب الجديد الذي وهي مناقشات الفكر الأوربي الحديث المنطق القديم ، وما جدد فيه ووضع في قضاياه واستدلالاته ، بل قل ما هدم منه وأقام من هذا المنطق الوضعي الذي يعجب به الدكتور زكي نجيب محمود ، والذي يؤمن مخلصا بضرورة تغلغله في نفوس شبابنا حتى يصطبغوا باللون الوضعي في تفكيرهم ، وتكون نظرتهم إلى الأشياء نظرة علمية فاحصة ، أو قل نظرة علمية وضعية تدفع إلى نهضة العلم التجربي بيننا كما نهض في أوربا الحديثة .
