الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1018الرجوع إلى "الرسالة"

أقصوصة مصرية، زعيم الطلبة

Share

كان يجلس في الفصل ساكنا ساكتا , لا يسأل ولا يسأل , ولا يشترك في نقاش جل أو هان , فإذا نزل إلى فناء المدرسة انزوى فى مكان قصي , ونشر صحيفته , وأخذ يقرأ قراءة اليوم , حتى إذا عاد إلى فصله مرة أخرى جر نفسه في تباطؤ وانكسار . وكان من يراه يظنه من المتفوقين الذين حبسوا أنفسهم على الدرس واستيعاب العلوم , وكان نجاحه على وتيرة واحدة لا ينقضها ولا يخالفها , فقلنا نجح من الدور الأول . وكان إذا أراد أداء امتحان الدور الثاني أوحى إلى أبيه في القرية أنه في حاجة إلى السفر إلى المدينة . وأبوه - والحق يقال - لا يعرف من أمره شيئا , ولا يسأل عن نتيجته . وكان سلوكه يطمئن والده , فالثقة فيه متوافرة , والاعتماد على عقله الحصيف ماثل , فليس ثمة داع إلى الريبة والظن . وماذا يرجو والده منه ؟ هو ناجح , وينتقل من فرقة إلى أخرى , وها هو ذا في السنة الثالثة الثانوية لم ير أحد منه رسوبا ولاتقصيرا

لكنه على حين غفلة أصبح زعيم الطلبة . أما كيف سار إلى هذا المركز فهذا ما يحتاج إلى حديث . لقد جاءه الوحي بالزعامة , والدرس يشرح الدرس , وما من شك في أنه لم يسمع كلمة , ولم ير أحدا ممن حوله فقد كان في شغل شاغل طرح به بعيدا عن المدرسة والدراسة, فلما دق الجرس , وطار الطلبة إلى الفناء تخلف عنهم قليلا , ولما

تأكد من خلو الفصول من طلابها صاح بأعلى صوته ليسقط الاستعمار ! ليسقط " صمويل هور"! ونظر الطلبة إليه وسمعوه يردد الهتاف مرة ومرة , فهرعوا إليه يرددون نداء ثم خطب خطبته المشهورة - كما يقال في الزمن القديم ودعاهم إلى الثورة , وترك العلم , وقفز إلى خارج المدرسة , وهتافه لا ينقطع ولا يفتر , واندفع وراءه جمهور الطلاب , وسارت المظاهرة تجوب شوارع أسيوط , وتعرج من حين إلى حين على مدرسة في طريقها , فتخرج طلابها . وهكذا تضخمت المظاهرة , وشق هتافها عنان السماء - كما تقول الصحف - وكان الناس يرون طالبا محمولا على الأعناق يكاد يخرج من جلده , وهو يصيح بسقوط الاستعمار وانتهى بزعامة جديدة تضاف إلى الزعامات القديمة . ومن هذا اليوم اشتهر الأستاذ " بهلول " وهذا اسمه , وعرفته المدينة ثائرا لا يهدأ , وخطيبا لا يسكت ، وزعيما سياسيا لا يعجز عن حل المشكلات . وأنت تعلم تماما أن الزعماء يشقون طريقهم إلى المجد بالعرق والدموع , ولا يصلون إلى الصفوف الأولى إلا بعد أن يصيح النهار بسواد شعرهم , ولكنه - أي زعيم الطلبة - خرج هكذا فكان زعيما زعيما ! مطبوعا قاد الطلاب فى صباه , وحير اليوليس بأساليبه وألاعبيه , ويقال : إن الزعيم ينبغى أن يكون قوي الجسم , ضخم الجثة , ريان العود , حاد النظر ، جهوري الصوت , حتى يسحر الجماهير . وأنا أعترف لك ولا أحلف بأن زعيم الطلبة حرم تلك المميزات , فقد كان نحيلا , لو تركا عليه طالب بالسنة الأولى الابتدائية لانهدم ، وقميئا تقتحمه عيون الأطفال بلا مبالاة , وله عينان بارزتان في استحياء , وفم انفرج من كثرة الثرثرة والنداء , وله صوت لا يصلح للغناء , ومع هذا كله كان نشيطا سليطا يروع حفظة الأمن , لا يكل ولا يمل , فهو شعلة متقدة , تراه في ناد وبعد قليل في مقهى . واتسعت دائرة شهرته , فلا يقام حفل إلا كان من خطبائه , ولا يجتمع للتشاور جماعة إلا كان بينهم , وإذا تحدث إليك أفاض في الحديث ؛

فهو ملم بأخبار الكرة الأرضية دولة دولة وزعيماً زعيماً،  ولا باس أن يحدثك عن الجان ويأجوج ومأجوج؛ لأنه يحب  الثقافة العامة ولا يقف عند أمر من الأمور، وكان يقول:  إن لكل شئ موضعاً

وتوالت الأحداث - ولا أحداث هناك - وإذا بالأستاذ بهلول يصر على الثورة والتظاهر , وإذا بالبوليس يقف منه موقفاً شاذا , ولكنه لا يتراجع , وينتهي الأمر بالقبض عليه

والقبض على زعيم الطلبة معناه الثورة , والثورة الجامحة الطامحة ! وأضرب الطلاب احتجاجا على إهانة زعيمهم , وسرعان ما أفرج عنه , واستقبلوه هاتفين وحملوه على الأعناق .. ونظر إلى نفسه فداخله الغرور , أو قل إنها الثقة والطموح , وفكر في زعامته فوجد مدينته لا تصلح لها ، وأنه في حاجة إلي أفق رحيب ومجال أوسع , فلا يليق به بعد ما بلغ ما بلغ أن يستقر على حاله تلك فلينتقل إذن إلى العاصمة , فهي في شوق إلى أمثاله

ونظر إخوانه ذات يوم فلم يجدوا زعيمهم , وانتظروا أخباره , ولكنها بعدت عنهم , ويعد حين يطول أو يقصر وصلت عنه الأنباء عاطرة بذكره , تشيد بأعماله الكبار , فقد دخل القاهرة دخول الظافرين , فجاب أنحاءها , ولما يسترح , وهاجم نوادي الأحزاب ولما ينفض غبار السفر , ولم يلتفت إلى ما حوت من جمال وحضارة , ولم يفكر في متحف أو ملهى , فالأمر أجل من ذلك خطرا , ولم يضيع الفرصة وهى سانحة , ولم يؤخر عمل اليوم إلى غد , وحياة الزعماء تعد بالدقائق والثواني . ولما كان في فطرته الثورة ، فقد انضم إلى حزب المعارضة . وابتدأ العمل , واتخذ الفنادق مأوى , والمقاهي مورداً , ولم يستطع في بادئ الأمر أن يزاحم خطباء الأحزاب , فالأحزاب مليئة بالشباب الثائر الفائر , والبلغاء الأبيناء , وما عليه أن يكون هتافا ، وهو واثق من نفسه على كل حال , وقد عرفه الناس

جريئا يتوجه إلى رئيس الحزب , فيهنئه بسحر البيان وقوة المنطق , ورئيس الحزب في غنى عن إطرائه وثنائه , ولكن الزعامة لا تتقيد - كما كان يقول الأستاذ حافظ عوض في ذلك الزمان

ولم يمض على الأستاذ بهلول شهران حتى صادفته عقبات - ككل الزعماء - فقد أصبح خالي الوفاض لا يملك من المال شيئا ، فقد انقطع بر والده به , ووالده غير ملوم فيما فعل , فهو مستعد للإنفاق على ابنه ما طلب العلم , أما أن يهرب من المدرسة فماله بين يديه لا يرسله إليه . وفكر في شأن والده فرآه على ضلال مبين . لا يقدر الأمور قدرها , ولا يحسب للوطن حسابا . إنه ذو أثرة قدم منفعته على منفعة الوطن . وما فائدة العلم في بلد محتل ! ومن أين علم أن ابنه يعيش حتى يجني ثمرة تعليمه , لقد وهب للوطن نفسه ويود أن يسقي شجرة الحرية بدمائه ، ومع ذلك فهو على جانب كبير من المعرفة , فهو يستطيع أن يكتب ويخطب ويجادل , ولا يعيا ببرهان . ماذا ينقصه ؟ ولو كان والده على علم بما يجول بخاطره , أو يفكر في مستقبل وطنه ما وقف ذلك الموقف الشائن ! ولأغدق عليه النعم , فما هجر العلم ليلهو ويلعب , وما لنفسه بغى الخير . إن الوطن قد ناداه فلبى النداء , ودعاه فأجاب الدعاء . والوطن أكبر من الوالدين , وأسبق منهما وجوداً , وأجدر بالبر والطاعة

ثم قام من مكانه . ومضى في طريقه لايلوي على شيء . ولا يحفل بشيء , تمر عليه الدور والقصور ولا يعبأ بها ، وتجري حوله السيارات ذاهبة آيبة , ولاتحرك منه ساكنا . إن شؤون الوطن قد ملأت شعاب قلبه , وحاطها بشغافه , ولم يعد هناك متسع لغيرها . وفجأة وجد نفسه أمام قصر عابدين فبهت لمرآه , وتيقظ تيقظا شديدا , وسمرت عيناه في شرفته , وأراد أن يتكلم , فجذبه الخوف جذبة أماتت الكلمات بين شفتيه , وبدا له أن يطوف حوله , فأدى

الطواف مغيظا محنقا , ثم تابع سيره ؛ حتى ألقى بنفسه في مقهى متواضع دخله لأول مرة , واتخذ له مكانا بعيدا عن الناس فقد عاوده الحنين إلى الوحدة ؛ وحدثته نفسه أن ينقد رواد المقهى ؛ فوجد نفسه مثلهم , فاعتذر لهم في ضميره وراح يسلي نفسه , فوضع الصحف المسائية أمامه على النضد بجوار الصينية وأخذ يقرأ حتى منتصف الليل ؛ وصاح صاحب المقهى يأمر بإغلاق الأبواب . فلما أحس تلك الصيحة نهض متثاقلا يجر رجليه جرا

ماذا يفعل ؟ إن ما معه من النقد لا يقوم بأمره . أيذهب إلى صديق ليقضي عنده بقية الليل ؟ ولم لا يوافق على هذه الفكرة . أيسير في الشوارع إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ؟ .وهنا هز رأسه علامة الرضا ؛ وسار يقطع الطرقات ؛ ويحادث العسس ؛ ويرمق السيارات وراكبيها ؛ واحتجت مبادئه السامية ؛ فلعن القدر وحياته الفاشلة . ثم سكنت المدينة وهو يدب في أحيائها وحيدا شريدا

واستقبل الصباح خائرا كئيبا , لا تكاد تحمله قدماه , وعلى غير وعي ألفى نفسه في مقهاه , وشرب شايا ممزوجا باللبن , وقرأ صحف الصباح بالمجان . فلما متع النهار شد جسمه إلى السير , والسير المجهول , ومضى في طريقه تتناوشه الأفكار السود من كل جانب . ومرت فكرة عن حزبه مر المجانب , ففرح باحتجابها , فقد يئس منه كل اليأس وفجأة سمع هتافا حارا , فاندفع نحوه بما يملك من قوة فوجد ضالته المنشودة , وجد مظاهرة كبرى , فاندمج فيها كأنه محركها , وما هي إلا هنيهة حتى كان على الأعناق يهتف وينادي بسقوط الحكومة , ولم يقف البوليس مكتوف اليدين , بل فرق المظاهرة وقبض على زعماء الحركة وفي مقدمتهم زعيم الطلبة . وفرح جدا حين اقتحم باب السجن كأنه مجرم تعود حياة السجون , وبات ليله يغط في نوم عميق , ولم ير الشمس حين أشرقت بنور ربها , ولكنه

أحس بها من داخل قلبه , وشعر بارتياح عظيم , وقدم إليه طعام غير طعام السجن فرضي عن نفسه وعن حزبه , ومرت عليه خواطر بيضاء , وأحلام حلوة . ولم يخرج من السجن إلا يوم سقوط الحكومة . وخرج ليكون من المجاهدين

لقد كان سجنه نقطة تحول في حياته ، فقد أصبح يجد المال ميسرا , وأصبح خطيبا يشار إليه بالبنان , يتحدث عن الاعتقال , والصبر على الاعتقال , وحاجة الوطن إلى الفدائيين . وأقبلت الانتخابات فخاض غمارها داعيا وهاتفا ، وامتطى الطيارة مع أحد المرشحين , وأطل من عل على المدائن والقرى , والرداء الأخضر الذي يتشح به النيل ، وذاق النعيم , وصار كالفراش يتنقل على موائد العمد والأعيان , وأخذ - يواصل العمل ليلا ونهارا . حتى إذا انتهت أيام الانتخابات -وليتها لم تنته - عاد إلى القاهرة ليتخذ دار الحزب مثابة وأمنا

هل دامت تلك الحياة السعيدة لزعيم الطلبة ؟ إن الدهر حول قلب , وخلائق الدنيا خلائق مومس - كما يقول الشريف الرضي - فقد انقطع عنه ما كان يتقاضاه , وران على الحزب سكون رهيب , ولم يهش لاستقبال أبطاله ، وفكر قليلا في ركود الحزب , ولكنه نوى الرحيل

أتضيق القاهرة على زعيم الطلبة ؟ غدا يذهب إلى المدارس والكليات عله يجد ما يتمنى , ونفذ ما ارتآه . فلم يجد سميعا ولا مطيعا , وحمد الله أن نجا بجلده من مخالب البوليس . وماله لا يكون صحفيا , وقد كتب مقالا في الأهرام بإمضاء مستعار , فليذهب إلى دور الصحف , ومن قبله أناس حرروها وما بأيديهم شهادات عالية ، وطاف يبغي عملا فسدت في وجهه السبل , فلجأ إلى حياة التشرد فأخذ يبيت عند هذا ليلة , وعند ذاك ليلة , حتى اجتواه من كان له محباً , ومله من كان به معجبا , ونبا به المقام ، واعترته الهموم والأسقام , ووسط أناساً ليصلوا

بينه وبين والده فلم يوفق , وطفق يتوسل إلى أحد النواب ليجد له وظيفة , والنائب المحترم يراوغه أو يتهرب منه , حتى عد نفسه شقيا لا مكان له في هذه الدنيا الواسعة

وذات يوم سأل عنه ذلك النائب ليزف إليه البشرى بالوظيفة المبتغاة , فأخبر بمرضه فطوى البشرى , وتركه لدائه وبلواه . لقد أصيب بالسل ونزل المستشفى للعلاج ، وهيهات هيهات أن ينجو منه , ومن أين له بجسم يقاوم ذلك الداء ... وأخيراً عجز الطب والأطباء

وذات يوم حضر والده ليرى ابنه محمولا على الأعناق , ولكن في هذه المرة إلى باطن الأرض , فقد آن له أن يستريح من ظهرها

اشترك في نشرتنا البريدية