الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 465الرجوع إلى "الثقافة"

أكسل شعوب الأرض، قاطبة

Share

فى هذا الوقت الذى تدفعنا فيه الحاجة الملحة إلى أن نكد ونكدح أكثر بكثير مما كنا نكد ونكدح من قبل .

وفى هذا الوقت الذى نعانى فيه ما نعانى من أثر القيود ونقص الأقوات ونظام البطاقات .

وفى هذا الوقت الذى تهزأ فيه القنابل الذرية بكل ما تسميه الحرية المتحضرة .

فى هذا الوقت الذى وصفنا ، نستطيع أن نبيح لأنفسنا أن ننظر نظرة غاضبة إلى ذلك الشعب الذى لم تنزل بساحته تلك الخطوب والكروب التى ألمت بنا . ذلك الشعب الذى يرى فى العمل المضنى - كفكرة مجردة - بلية كبرى يسأل من مثلها العافية .

ذلك الشعب الذى يعيش فى جو من السعادة المتخيلة وقد مرت عليه فى بلاده قرون وقرون لم يعرف غير الهناءة مركبا .

هذا الشعب هو شعب (( النودا )) وهو شعب يجمع بين حرفتى الرعى والزراعة .

وهو شعب يعيش أفراده فى حال من السرور يكاد يخرج بهم عن حد العقل . وهم يمرحون ويمرحون بين المناظر المحببة فوق آكام (( نلجيرى))  فى جنوب الهند .

والناس يسمونهم (( أكمل شعوب الأرض قاطبة )) . ولكنهم فى الواقع من أكثر الشعوب دراية وحكمة ذلك لأنهم قد عرفوا كيف يقضون أيامهم فى شغل لا ينقطع وهم لا يعملون شيئا .

وذلك لأنهم عرفوا كيف يحصلون على قوتهم دون أن يعملوا لكسب هذا القوت . وذلك لأنهم عرفوا كيف

يبلغون حد التمام من حيث الحرية الاجتماعية والعقلية .

فهم لا يبذلون أى جهد فى زراعة الأرض . وهم على الرغم من ذلك يلقبون (( بأرباب الأرض وملاكها )) . وليس ذلك بحكم اعتدادهم بأنفسهم، ولكن بحكم ما اعتادوه من فرض الجزية النوعية على قبيلة (( بودبغار )) التى ينظر أفرادها إليهم نظرة احترام . يكاد يبلغ حد الاحترام الأسطورى .

وهم يعتمدون كذلك فى معاشهم على قطعان الجواميس . وهم سلالة من البشر لأفرادها جاذبية تفوق الوصف ؛ ففيهم حلاوة وظرف . وفيهم ميل للفكاهة والضحك . وهم لا يعرف الخوف السبيل إلى قلوبهم . وهم أقوياء البنية . وفى خلقهم متانة وصلابة .

وقد عاش شعب (( النودا )) بالقرب من (( أوتاكا مند )) فى آكام ((نلجيرى)) زمانا لا يستطيع أن يحصيه المؤرخون .

ففى القرن الحادى عشر الميلادى كان واحد من كبار القواد الهنود يشق طريقه إلى آكام (( نلجيرى )) وكان شعب (( النودا )) قد استقر هناك قبل مجىء ذلك القائد بزمن مديد .

وقد ظل ذلك الشعب طوال الأجيال محتفظا بعاداته وبمعتقداته البدائية ، وبسلامة تقاليد قبيلته .

وقد ظل أفراده سعداء . وهم يستمتعون بجو بلادهم البديع ، وقد تقدم الشعر والغناء عندهم .

وهم يتقنون بمدح موتاهم كما يتقنون بمدح آلهتهم . وهم يؤلفون الأغنيات البارعة يهدهدون بها أطفالهم .

وكذلك هم يتغنون بمدح الجمال المائل فى الفجر الطالع وفى الجبال الرواسى .

بل هم يتغنون بذكريات الأشياء التى لا تدانى تلك المشاهد العظيمة فى جمالها وسموها . فهم يذكرون فى أشعارهم وأغانيهم القطار الذى يركبون ، والأمراض التى

تفتايهم . كما يذكرون الضيف الذى يمر بمحلتهم كواحد من عابرى السبيل .

وهم يمزجون أغانيهم بمدح الحب والثناء على المحبين ، والإشادة بالوقائع الغرامية .

ولشعب (( النودا )) حرية فى المسائل الجنسية لا يلقاها المرء عند أى شعب آخر من شعوب الأرض .

والزواج عندهم شريعة مؤكدة ؛ فإذا بلغ الصبى عندهم مبلغ الرجال اختار لنفسه زوجة . ولكنه عند ما يدخل بها تصبح زوجته زوجة لسائر إخوته إلى أن يتم زواج أولئك الاخوة .

ولكن إذا ماتت الزوجة كان للزوج أن يطارح الغرام زوجة رجل آخر . وأن يأخذها إلى بيته . وأن يفاوض زوجها وأباها فى أمر شرائها ( على أن يدفع الثمن أبقارا ) .

وفضلا عن ذلك فان الثابت أن كل رجل متزوجا كان أو أعزب له خليلته ، كما أن لكل امرأة خليلها .

وليست هناك مواثق تقام فى سبيل الحب الصحيح ، أما علاقات الحب العابر فهى دائمة الحدوث . وهى مسائل لا بأس بحدوثها فى نظرهم ، إلا إذا كشف الزوج عن أمر هذه العلاقات ، وعندئذ وجب أن يمنح العوض .

وهكذا تحيا تلك الأمة من الشعراء والمحبين الخليعين ، وهى لا تعرف للكره أو للغيرة طعما أو مذاقا .

وقد سائل المرء نفسه : أقادر ذلك الشعب على أن يجد من وقته متسعا لشىء فى هذه الدنيا سوى الحب ؟

والجواب : أنهم قادرون ، فان تقاليد القبيلة عندهم لا تقوم على الحب والشعر ، بل على الجواميس والأبقار ؛ فكل شىء يتصل برعاية هذه الأنعام وصياتها هو عندهم شىء له قداسته .

ومعمل الألبان هو هيكل (( النودا )) ومعبدهم . وقد سما مقام البقرة فى تلك الهضبة الصغيرة حتى إنها

فاقت الآدميين فى علو القدر والعزلة فأصبحوا لها خدما . بل أصبحوا لها عابدين .

والصلاة التى يؤديها أفراد ذلك الشعب تقوم على وعاءين هما : (( فلينعم الناس بالا )) أو ((لتنعم الأبقار بالا!)) .

وللكهنة عند أولئك القوم خمس درجات : أولاها درجة (( بالال Palal )) وهو الكاهن الأكبر الذى يجمع بين رعى الأنعام وإقامة شعائر الدين وله على القوم سلطان أى سلطان . فهم يعتقدون أن روح الإله تحل به ، وأن المشورة التى يبديها لمن جاءه مستشيرا إنما هى من وحى الإله .

ولهذا الكاهن الأكبر لبن القطيع المقدس خالصا . فإذا بيع هذا اللبن ، كان هذا البيع رجسا من عمل الشيطان .

وللكاهن الأكبر فوق ذلك هدايا تقدم إليه استدرارا لعطفه ورضاه . يقدمها أولئك الجبناء من قبيلة (( بودبغار )) الذين ينظرون إليه نظرة الخشوع والخوف . لا لقداسته فحسب . بل لما يظنونه فيه من معرفة بأسرار (( السحر الأسود )) .

والموت لدى هؤلاء القوم فرصة مواتية للقيام بطقوس عديدة غريبة . فإذا جاء أحدهم الموت ، أو ظن أنه ميت عما قريب ، حلاه أهله بأعلى الحلى ، وألبسوه أبهى الحلل ، وسقاه أصحابه لبنا سائغا ، كآخر هدية تهدى إليه . ثم لف فى عباءة جديدة ، ووضعت فى جيوبها مقادير من الحبوب والسكر ليتزود بها فى طريقه إلى العالم الآخر . ثم نحر عدد من الجواميس ليتخذ من ألبانها زادا له وهو بالعدوة القصوى .

وهم يظنون أن أرواح الناس وأرواح الجواميس تقفز معا من قمة الهضبة إلى عنان السماء .

وإذا ولد لأحدهم ولد جىء بعجل صغير . ثم جاء والد الطفل بثلاثة مكاييل وملأ أحدها ماء . ثم صبه فى المكيالين

الآخرين . وهو ملصق إياهما بالجانب الأيمن من رجلى العجل الخلفيتين . وكأنه يشير بهذا إلى فذاء الطفل فى الأيام المقبلة من لبن ، ورائب ، وزبد ، وحبوب . وهى المواد الأساسية للغذاء عند أولئك (( الأقوام )) .

ويبلغ عدد شعب (( النودا )) ستمائة ؛ ومما هو جدير بالملاحظة أنه على مر القرون لم يزد هذا العدد ولم ينقص . ويبدو أنهم عرفوا (( السر )) فى كيف يحافظون على أنفسهم وكيف يحددون النسل وفقا لمواردهم .

ولا شك أنهم - فى نظر أنفسهم - قوم جد سعداء ، لا يعرف الهم السبيل إليهم .

وقد يكونون قوما بلداء كسالى ، ظلوا فى مكانهم طوال الأجيال جاثمين لا يعرفون طريق التقدم .

ولكن ماذا نعنى بالتقدم ؟ إن كان معناه بلوغ حالة من العيش قوامها القناعة والرضى ، فقد بلغ شعب (( النودا )) الغاية فى مضمار التقدم بل قد جاوز تلك الغاية .

(مترجمة)

اشترك في نشرتنا البريدية