كنت قد حضرت مجلسا يتناقش أفراده في أمر " المرأه " و " الرجل " - والدعوة التى يدعو بها بعض الناس من أن الطبيعة تسوي بين الرجل والمرأة في المواهب مما يقتضي أن تستوي معه في الحقوق ، وقد لجأ بعض أصحاب هذا المذهب إلى تأييد دعوتهم بأن الإسلام لا يفرق بين المرأة والرجل - وكان بين الحاضرين رجل من رجال الدين يدفع هذه الدعوى بعنف ويقول إن الإسلام ينكر هذه المزاعم الباطلة وإن القرآن بريء من موضوع يسمي " المساواة " بين المرأة والرجل - ووعدنا في آخر المجلس بان يعد لنا ثبتا من آيات القران يبين أحكامه في هذه القضية ويضع حدا للجاجة المتجاولين فيهما على أساس الدين . فلما انتظم عقدنا في الجلسة الثانية ، أقبل علينا بفيض البشر والاطمئنان من فسمات وجهه . ومشي إلينا مشبة الواثق من أمر نفسه فيما هو بسبيله . وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى اضطجع وقال :
- " لقد جئتكم من سبأ بنبأ . . إنكم طلبتم مني حكم القرآن في أمر " المرأة والرجل " - وحكم القرآن في أمر " المساواة " واضح ناصع إذ تتحدث آياته عن آدم الرجل الذي استخلفه الله في الأرض ، وعلمه العلم ، وكرمه بسجود الملائكة له . ووهبه المرأة ، لتكون سكنا له فيما يجده ووعاء لتجدد نوعه - ولم يذكر الله اسم هذه المرأة التي أخرجها من نفس آدم ، وإنما أشار إليها بكلمة (الزوج) فحسب ، دلالة على أنها منه وإليه ، وفي ذلك يقول الله : - " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) - " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " . - " وعلم آدم الأسماء كلها " . - " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا " . - " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " .
فكل هذا واضح الدلالة على من يكون " الرجل " في هذا الوجود ، ومن تكون " المرأة " .
ثم أتي ذكر المفاضلة بين الرجال والنساء عرضا في القرآن الكريم عند زجر أولئك الذين لم يستحوا في شركهم فسموا الملائكة بأسماء النساء : - " ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيري : " فأي توبيخ أبلغ من ذلك لمن سول لهم ضعفهم أن يقرنوا الأنتي بالذكر ، ويجعلوهما بمنزلة واحدة ، مع أن مجرد تسمية الملائكة بأسماء الإناث كان من الأعمال التى استحق الكفار من أجلها التقريع : - " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى " . - " أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ؟ إنكم لتقولون قولا عظيما ! " . - " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، أشهدوا خلقهم ؟ ستكتب شهادتهم ويسألون ! " .
٠٠٠ ولقد أورد القرآن في قصصه العالي رأي امرأة طاهرة في هذه القضية وهو أول ما يستشهد به الإنسان في هذا المقام لأنه قضاء امرأة في القضية الوحيدة التي يجوز لها أن تقضي فيها - إنه رأي " امرأة عمران " - أم مريم وجدة المسيح - إذ نذرت ما في بطنها لله وهي تحسبه ذكرا ، فيكون أعظم ما يعمله ولدها هذا أن ينقطع لله وعبادته ، ويكون أعظم ما عملته هي أنها ولدت هذا الذي يعبد الله بحق ، فلما وضعته أنثي قالت ضارعة إلى الله : - " رب إني وضعتها أنثي - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى . . " فامرأة عمران في ضراعتها وصدقها تقول للرجال والنساء قولا عظيما حين تقول لله : " وليس الذكر كالأنثي " - تقول هذه الحقيقة كاسفة البال ، لأن الأنثى التي
وضعتها - وهي مريم - لاتفي بنذرها ولا تحمل كالرجال أمانتها - ولكن الله الذي استجاب دعاءها كان أعلم بما وضعت ، إذ أنه أخرج من بطنها تلك التى ستلد من بعدها آية من أعظم آياته ونبيا يتنزل عليه واحد من كتبه ، ذلك هو عيسى بن مريم رجل الصدق ، وجيها في الدنيا والآخرة ، ومن المقربين .
واسترسل صاحبنا في كلامه يقول : وأمضي بكم إلى ثبت الأحكام القرآنية الذي طلبتموه مني ، فأذكر لكم من جهة الولاية العامة ما يقضي علي حجج الحراسين حيث يقول : - " الرجال قوامون على النساء ! " . ومن جهة المفاضلة يقول الله : - " وللرجال عليهن درجة ! " .
ومن جهة الوعي العام والصلاحية للشهادة يقول الله : - " فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " . ومن حيث الميراث يقول الله : - " للذكر مثل حظ الأنثيين " .
ويشهد الله سبحانه في قرآنه أن الرجل هو خليفته . إياه بوصي ، وإليه يوجه الخطاب حين يملى النظم التي يريدها أن تسود على هذه الأرض ، ومن ذلك قوله : - " فانكحوا ماطاب لكم من النساء . . وإذا طلقتم النساء . . فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . . واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " . لم يقل الله للنساء إذا
- " إنكحن ماطاب لكن " ولا " طلقن ولا " عظن واهجرن واضربن فإن أطاعوكن . . وما أعجب هذا لو أن الله أمر - ولكنه سبحانه يمسخ بعض الرجال في بعض البلاد فيصيرون إلى ذلك حيث النساء ينكحن ، ويطلقن ، ويهجرن ، ويضربن ، ثم يقمن على رؤس الرجال مقام القضاء والخصومة والحكم والموعظة .
كذلك أوضح الله لأهل الطبائع السليمة مقام المرأة في القرآن الكريم حيث جعلها رحمة للرجل وسكنا . فهي تجدد نشاطه حين يستمتع بها ، وهي تجدد ذاته وصفاته حين يستولدها .
وكان بين أعضاء الندوة رجل لغوي لا هم له في هذه الدنيا إلا الصرف والنحو والاشتقاق وما إلى ذلك . وهو لا شك من سلالة ذلك الرجل الصالح الذي مات وفي نفسه شئ من " حتى " وطريقة إعرابها . قال - لا فض فوه : - جلاء لآيات الله التي ساقها لنا الآن سيدنا الشيخ ، ترى أن هذه الحكمة في مقام المرأة وموضعها من الرجل ظاهرة في قوام هذه اللغة العربية التى أنزل الله بها كتابه والتي هي انعكاس لأفكار الناس ومعتقداتهم - شأنها في ذلك شأن جميع اللغات .
إن الله سبحانه وتعالي يقول في آية من آياته التي يجيء فيها ذكر الأزواج وزوجاتهم : - " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا . . " أي كانتا - زوجتين - لهما . .
فما الذي يجمل اليوم كلة " تحت " بمثابة " فوق " أو " يساوي " في لغة هؤلاء المصلحين المفسدين إلا أن يكون الله قد مسع أفهامهم فجعلهم يفسرون النقيض ينقيضه " .
... قال الرجل الذي يدعي أنه خبير بأدواء المجتمع : - ألست تري تلبيس هؤلاء المصلحين الكاذبين في قولهم إن " أطفال الشوارع " و " الطفولة المشردة " آفنان في المجتمع أناخ بهما عليه تعدد " الزوجات " و " الطلاق " الذي تيسر سبيله الشريعة الإسلامية !
والحق أن هؤلاء الكاذبين يرمون الشريعة بجرائرهم ويتجنون عليها بذنوبهم وخطاياهم . والأطفال المشردون إنما هم تمرة خطايا هذا المجتمع الذي لاعدل فيه ولا رحمة به . إنهم أفراخ الفاقة قد انشقت عنها البيوت الصغيرة الكئيبة تحت ضغط الأحوال العامة السيئة ، وما العمال العاطلون إلا
أطفال مشردون ، أبوهم المجتمع الفاسد ، في حين أن بلادنا خصبة وجوها صحي . فما عسى أن تكون علة هذا ( التشرد ) ؛ إن العلة هي جهل العلة أو تجاهلها ؛ ومن ذلك نسبة الفساد إلي " تعدد الزوجات " . والحقيقة أن هذا الفساد راجع إلى نشر الجهل والفقر . ولو عمل المصلحون على رفع المستوي الثقافي والاقتصادي لاجتثوا هذا الفساد من جذوره وأتوا بنيانه من القواعد . ولكنهم يجدون أهون من ذلك عليهم وأيسر أن يحرفوا كلام الله وبفسرونه بما يشتهون . .
وانبري من بين الحاضرين رجل يعيش في جو الماضي دائما ولا يستطيع الفكاك من تقاليده . فقال معقبا : يا إخواني ؛ إننا بحكم خضوعنا اليوم للحضارة الأوربية أصبحنا نتأثر بقوانين بلادها وأحكامها في شئون الزواج والطلاق ، كما تتأثر بعدوي مشاعرها الإباحية ، ومنها تقديس المرأة وتقديمها في المجالس والرقص بها وتقبيل يدها وما إلى ذلك من بقية العادات والتقاليد .
إننا بحكم ضعفنا وفشو الأمراض في كثرتنا وتأثرنا بالانكلستوما والبلهارسيا والأسكارس ، وانحلال قوانا بأمراض البلاجرا والسل والملاريا ، وانطفاء ذبالة حياتنا بعلل الكبد والمرارة والطحال والضغط والأفرنجي . .
وبحكم اختلال قوانا العقلية بإدمان الشاي والدخان والخمر والأفيون وباقي المخدرات . .
" وبحكم استهتارنا بالأخلاق الفاضلة وتردينا في مهاوي السرقة والاختلاس . والزنا واللواط ، والكذب والنفاق . والمخادعة والدس والغرور . .
بحكم ذلك كله أصبحنا والموتي خير منا حالا وأرجي عافية . فلندع المرأة إذا تفعل بنا ما شاءت ، ولتعلن في القانون شريعة سلطانها بما أحبت وليمش في ركابها أشباه الرجال منا خدما خاشعين وأسري متذللين - ولا لوم على النساء قط في ذلك ولا تثريب ، فإن من حق المرأة على " الرجل الميت " أن تضعه تحت وصايتها وأن تتجه به كيفما اتفق لمشيئتها . .
وكان الحاضرون ( يمصمصون ) شفاههم حسرة ، حين كان هذا الرجل الفاضل يستعرض أمامهم حالة المجتمع الراهنة كما يراها هو في هذه الصورة الفنية الرائعة ، ولم يبد لأحد منهم أن يعقب على كلماته التي كان فيها عندهم فصل الخطاب .
هذا ماتم في مجلس هؤلاء السادة رأيت أن أعرضه في أمانة على قراء الثقافة ليتبينوا فيه " ألوانا من التفكير " وفنونا من القول ، وليري كل واحد منهم رأيه فيه . .
وقد كان يشهد معي هذا المجلس صديق شاب أثم دراسته في أمريكا وعاد ورأسه مشحون بالتجارب الكثيرة التي جمعها أثناء إقامته في تلك الأقطار ، فكان يبني وبينه حديث عقب هذه الجلسة ، أرجو أن ألخصه في الكلمة التالية إن شاء الله ، لأختم به هذا البحث .
