الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 667الرجوع إلى "الثقافة"

أمانى ...

Share

كنت وأنا صبي صغير أسكن مع والدي في منزل لا نملكه ، ولكنا كنا سعداء فيه . ندفع أجره في سهولة ويسر ، ولا نتحمل من أعبائه شيئاً من تلك الأشياء الكثيرة التي تقع على عاتق المالك دائماً ... وكنت في طريقي إلى المدرسة التي كنت أتلقى فيها علومي في ذلك الحين أمر بمنزل أنيق وجيه - ولست أدري لماذا كانت تحدثني نفسي كلما مررت بهذا النزل بأننا سوف نكون أسعد حالا لو أتيح لنا أن ننتقل من منزلنا الذي كنا نقيم فيه إلى هذا المنزل الجميل، الذي يأخذ جمال منظره بالألباب - ولكن هذا الحديث لم يكن يعدو أن يكون نجوي خافتة ، تسرها نفسي إلى نفسي، كالخاطر الخاطف، يومض برهة في الذهن ثم ينقضي ، ولا يترك اثراً من بعده .

وذات مساء سمعت والدي يتحدث إلي والدتي - رحمة الله عليهما - فيزين لها أن يكون لهما منزل يملكاته ، ويقيمان في بعضه . ويؤجران بعضه الآخر ، بدلا من السكن في بيوت الناس، والالتزام بدفع أجر شهري لهم - ولم تكن والدتي ترى رأي والدي في أول الأمر في هذا الشأن، ولكنه ما زال بها يلح عليها ، ويبدي لها ويعيد في هذا الحديث حتى اثبت إلي الاقتناع بوجاهة فكرته - ولم يكونا يشركاني في أمثال هذه الشئون لحداثة سني ، ولكني استطعت أتابع من بعيد مجادلاتهما ومحاوراتهما ومشاوراتهما ، وأن أعرف في النهاية ما استقر عليه رأيهما - فلم أهتم بشئ للقرار الذي اتخذاه لأنه سيان عند طفل مثلي أن يكون من ذوي الملك واليسار ، أو أن يكون إنسانا على باب إن كبقية عباده . ولكني اهتممت أشد الاهتمام عندما تمت صفقة البيت الجديد الذي وقع عليه اختيارهما ، وعندما دعواني أنا وإخوتي لمعاينته بعد أن أخلى من سكانه استعدادا لاستقبال ملاكه الجدد - فإني رأيتهما يسيران بي في طريق مدرستي الذي أسلكه كل يوم، ثم يقفان بي أمام باب ذلك المنزل الذي طالما تمنيت على الله في آمال طفولتي أن يجعله ملكا لي - ولم أر بأساً ونحن ندخل من الباب أن أستوقف والديّ برهة لأروي لهما قصتي مع هذا

البيت الجديد ، وكيف أني تمنيته في أعماق نفسي ، وكيف أن الله حقق فيه آمالي ... !.

ولبثنا في هذا المنزل عاماً وبعض عام ، ثم طولب والدي بدفع حكره ... فقد خدعنا البائع ولم يلفتنا إلى أن أرض المنزل ليست مملوكة له؛ ولم يكن الناس - أو كثير منهم - في ذلك العصر الأول قد اعتادوا أن يستخرجوا شهادات عقارية عندما يشترون أرضاً أو داراً ، ما دام الشرف يسود المعاملات ، وما دامت النزاهة تغلب على تصرفات الناس.

ومهما يكن من شئ فهذا هو الذي كان من أمرنا مع هذا المنزل - ولم يرق والدي تصرف البائع معه ، وضايقه أن يرى نفسه مخدوعاً، واستبد برأيه في ضرورة فسخ العقد، واسترداد الثمن والتخلي عن للنزل - وبدأ نضالاً قضائياً عنيفاً مع المالك والوسيط كلفه كثيراً من المال وأرهق أعصابه ، وكان سبباً في إتلاف صحته وإفساد أعصابه، مما دعاني إلي كراهية هذا المنزل، والتضرع إلى الله من جديد أن يخرجنا منه بسلام، كما أدخلنا فيه من قبل بسلام ... رحم الله والدي ، ورحم الله ذلك المنزل الأنيق .

ومنذ ذلك اليوم عرفت معني تلك الكلمة المأثورة التى كنا نحفظها في المدرسة: "رب متمن حتفه في أمنيته ! " ومنذ ذلك اليوم أيضا تلقيت تطبيقات عملية عدة لهذه الحقيقة الخالدة - فقد حدث بعد أن بلغت دور الفتوة ، وخرجت من دور الصبا ، أن كان لي صديق حبيب إلى قلبي أطلعه على سري ويطلعني على سره - فأفضي إلي ذات مساء أنه يحب ابنة خالته حبا يكاد يطيش له عقله - وكنا إذ ذاك طالبين في مدارسنا العليا لم تفرغ بعد من دراساتنا ، ولم نحصل على إجازاتنا ، فرأيت أن أشير عليه بالتريث حتى ننتهي من مدارسنا ، ثم يسأل والديه أن يخطباها له ، فقال لي : وما الذي يضمن لي بقاءها خالية حينذاك؟ فسألته إن كان يشعر منها بشئ من الميل إليه لقاء كل هذا الحب الذي يحبها إياه ، فقال : ومن لي أن أعرف منها سر ذلك ؟ وهل أنا استطيع أن أتحدث إليها ؟ إنني أراها من بعيد ، فإذا

اقتربت منها غامت عيناي فلا أعود أقوي حتى على النظر إليها ، كأنما احاول التحديق في قرص الشمس وهي في أوجها ، فهل تريدني - وهذه حالي - أن أفهم منها إن كانت تحبني أو لا تحبني!؟ .

وكان صاحب وسيم الخلقة ، ذكيا ناجحا ، ولكنه كان شديد الحياء ، فرأيت أن أشجعه بإبراز مزاياه التي قد يكون غافلا عليها بحكم هذا الحياء الشديد ، فجعلت أكرر أمامه كيف أن مركزه الاجتماعي لا يقل عن مركزها ، وكيف أنه فتى تهفو إلى منظره قلوب الفتيات ، وكيف أنه لاشك أن يحصل على شهادة من أثمن الشهادات العليا في هذه البلاد - وانه سواء علم من ابنة خالته أنها تهواه كذلك أم لم يعلم ، فإنها ولاشك سترحب بأية إشارة منه إلى رغبته في الزواج منها - فقال لي : بإ صاحبي ما أسلم قلبك؛ إن آلافاً من الشبان لابد أن يكونوا قد سبقوني إليها ، فإنها فتاة على فرط جمالها جريئة لا تهاب شيئاً ، ويسرها أن تلعب بعقول أكبر عدد ممكن من الشبان لتلهي بتهافتهم عليها ! فأوجست من كلامه هذا وأجبت ، وقلت له : وهل أنت تحبها على الرغم من أن هذا هو طبعها ؟ فقال : إن هذا طبع كل فتاة ، وليس يضيرها في شيء أن تكون مثل غيرها . إنني لن استطيع أن أعيش بغيرها ، وان استطيع أن أنجح هذا العام إلا إذا اطمأننت على مصيري معها، إذ ما فائدة النجاح إذا لم أجدها في انتظاري عند نهاية الطريق ؟ !

قعدت أشير عليه بضرورة أن يفضي بسره إلى أمه لتتولى هي تدبير أمره على الصورة التى تراها - وسرني أن أراه هذه المرة يأخذ بمشورتي . .

وبعد ذلك بأيام جاءني صاحبي عشاء وهو يبكي قال : إني عولت على أن انتحر ! وكان جادا في كلامه حتى لقد وقع في روعي أنه سيقتل نفسه أمامي؛ فتولاني الذعر وأمسكت بيديه وتأشدته الله أن ينتظرني حتى ارتدي ثيابي لأخر ج معه في الهواء الطلق حيث نستطيع أن تكلم بغير حرج من وجودنا على مقربة من أهلي في داخل البيت ...

وأسرعت إلى ثيابي كأنني أحد جنود المطافي فارتديتها في مثل لمح البصر ، ورأيتني أجذبه من يده خارج غرفتي ، ثم مالبثت أن خرجت به من البيت ، ثم التفت إليه أسأله ما خطبه .

فقال إن أمه قصدت إلى أختها - أم صاحبته - وعرضت عليها أمرء فاستمهلتها حتى تتحدث إلى ابنتها لأنها تعرف أنها

شديدة الاعتداد بنفسها ولا تحب أن يفرض أحد إرادته عليها - وان الفتاة لم ترحب بالفكرة كما كنا نرجو وقالت إن مثل هذا الحديث سابق لأوانه ، فلا هي أتمت دروسها في المدرسة السنية ولا صاحبي أتم دروسه في كليته - وبذلك تركت الأمر معلقا - ولكن صاحبي لشدة حساسيته في هذا الشأن فسر تصرفها بانه رفض مسكوب في هذه الصيغة المهذبة حتى لا تجرح كرامته - وأنه لذلك عول على الانتحار ...

ولست بصدد سرد التفاصيل التي انتهت بزواج صاحبي من ابنة خالته ، ولكنى أذكر مع الأسف البالغ أنه إن كان قد نجا من الانتحار حينما توهم أنها ترفض الزواج منه، فإنه - عليه رحمة الله - قد انتحر أخيراً لأنه .. تزوجها! فإنها بعد زواجها ظلت تنظر إلي صاحبي على أنها صاحبة الفضل عليه في أنه حي يرزق - واستمرت في خطتها الأولى ترى أنها إنما خلقت لتلتهي بقلوب العباد وتحطيم أفئدتهم، ونسيت أن ما كانت تستبيحه لنفسها من ذلك وهي حرة عذراء أصبح محرما عليها بعد أن دخلت حظيرة "الزوجية" وارتبطت بروابطها " المكدسة " - وكان صاحبي يلاحظ سلوكها الشائن ويتعذب ، ثم لم يطق عليها صبرا آخر الأمر، ولكنه ظل على ضعفه أمامها في كل ما تري وما لا تري - وكانت تلك الكارثة التي خيل إليه في ساعة من ساعات خوره وضعفه أنها المخرج الوحيد من ورطته ... مرة أخرى ... رحمة الله على صاحبي !

وهناك تطبيقات اخري غير هذه التي رويتها طغت كلها في ذاكرتي وأنا اقرأ صحف هذا الصباح ...

فقد قرأت فيها أن بعض رجالنا الكبار الذين بلغوا أسمى المراتب والذين يحسدهم الناس على كراسيهم العالية خلفوا هذه الكراسي وراءهم شاغرة وولوا مذعورين عنها لا يلوون على شيء ... منهم من استخفى في داره ، ومنهم من أوغل في الصحراء يستخفي في أغوارها السحيقة حتى لا يدركه أحد ولا يعلم مقره أحد ...

ومع ذلك فهناك عشرات غيرهم يقفون تجاه هذه الكراسي وأفواههم تتحلب إلى جلسة واحدة فوقها ... هكذا الحياة .. وهكذا سرابها ... لا يحسه الإنسان إلا بعد أن يهلك فيه من جوع ومن ظمأ . . أما قبل ذلك فلا تستطيع قوة على الأرض أن تصده عن التطلع إليه والتهلف عليه!

اشترك في نشرتنا البريدية