الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 193الرجوع إلى "الثقافة"

أم معاوية

Share

البنود خافقة والسيوف مشرقة والرماح مشرعة وهتفات المؤمنين ملحة بالتكبير والتهليل ، يتردد صداها بين الحرمين ، واباطح " بدر " تموج بصناديد قريش وابطال المسلمين فلما التقي الجمعان علا مثار النقع رءوسهم والتمعت فوقها الأسياف كالنجوم المتهاوية ، وسالت الحراب بالدماء المسفوكة ، وهي تمعن في الغزاة الفاتحين طعنا وتنكيلا ، ثم اسفرت معركة " بدر " عن الشهداء والضحايا وفيهم عتبة بن أبي ربيعة من غطاريف قريش وسادتهم ، وفيهم اخوه شعيبة وبكره الوليد ، وكانت هند بنت عتبة مع نساء قومها يبتعثن الهمة ويؤثرثن الحمية والنخوة ، وفيهن فوج مقتحم من الأواسي المسعفات معهن مزاود الماء والطعام ولفائف الجروج والكسور ؛ هنالك أبصرت

هند أهلها الأقربين ما بين صريع وطعين ، فهالها الخطب الفادح وآدها المصاب الجسم ، فراح معها زوجها أبو سفيان يوقد الفتنة ويثير الأحقاد ، ويحث قريشا على الصمود والانتقام ، ثم انصرفت هند وقد جاش الشعر بخاطرها ، وفاض شعورها الحزين في رثاء ابيها وتعداد مناقبه حتى قالت ؛

لله بينا من رأي هلكا كهلك رجالية

يا رب بك لي غدا في التائبات وباكية

قد كنت أحذر ما أري فاليوم حق حذاريه

يا رب قائلة غدا يا ويح أم معاوية

ولكن هنداً ما اكتفت بهذا الرثاء ، ولا اشتفت من حزنها بالبكاء ، بل بقيت حرى الكبد ملوعة القلب ، وهكذا انهزمت عشيرتها وعادت بقاياهم بالخزي والعار . فكان في كل بيت من بيوتهم مناحة لقتيل او عيادة لجريح ، وقد تنتهي المناحات وتلتئم الجراحات وتبقي حزازات النفوس كما هي ، فما اطمأنت لقريش قلوب ولا هدأت نفوس ، ولا ارتفعت رءوس

ويأتي موسم عكاظ وهو سوق المفاخر والمآثر عند العرب ، كان يكاثر فيه بعضهم بعضا بالرزايا والخطوب ، فتنشد الأشعار وتعقد مجالس النقد والتفضيل ، ففي عام " بدر " علمت هند بنت عتبة ان الخنساء السلمية تعاظم العرب نصيبها ، وانها ستحضر الموسم وقد سومت هودجها براية فقالت هند : انا اعظم من الخنساء مصيبة ، وأمرت بهودجها فنصب العلم فوقه لتوافي نديدة لها بعكاظ ، وهناك انشدت العرب مرائيها في أهلها ، فكانوا يتدافعون بالمناكب حولها وهي ترجو أن لا يفوتها مشهد الخنساء ، فلما اقتربت هذه المفجوعة منها سألتها : من أنت يا أخية ؟ قالت : انا هند بنت عتبة اعظم العرب مصيبة ! وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم ؟ قالت الخنساء : بعمرو بن الشريد واخوي صخر ومعاوية ! وبم

تعاظمين أنت ؟ فأجابت هند بأبي عتبة بن أبي ربيعة وعمي شيبة وأخي الوليد !

فقالت الخنساء :

ابكي أبي عمرا بعين غريرة .  قليل إذا نام الخلي هجودها

وصنوي لا أنسي معاوية الذي له من سراة الحرتين وفودها

وصخرا ومن ذا مثل صخر إذا غدا بسلهبة الأبطال قبا يقودها

فذلك يا هند الرزية فاعطي ونيران حرب حين شب وقودها

واجابت هند :

ابكي عميد الأبطحين كليهما

وحاميها من كل باغ يريدها

هذا عتبة الخيرات ويحك فاعلمي

وشيبة والحامي الذمار وليدها

أولئك آل المجد من آل غالب

وفي العز منها حين ينمى عديدها

وبقيت نفوس العرب ظمأي إلي الأخذ بالثأر وإدراك الاوكار ، حتى عاد سجال الحرب بين الحق والباطل ، فتنادت قريش إلي الجبل الأحمر ، إلي شعاب( احد) لقتال المسلمين فتألب الثائرون وتواثب الموتورون ، فأنحنوا الجراح وأسرفوا في سفك الدماء ، وأطلت هند بنت عتبة في موكب النساء وهن يضربن الدفوف ويهتفن بالإبطال ، فانفرجت لها ولهن الصفوف ، وكن معولات مولولات ، ولرجالهن مهددات منشدات :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

مشي القطي البارق

المسك في المفارق

والدر في المخالق

إن تقبلوا نعانق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

عرس المولى طالق

والعار منه لاحق

ثم رددن في هزة وحماسة:

ويها بني عبيد الدار

ويها حماة الديار

ضربا بكل بتار

فكانت هذه الأهازيج الصارخة أنفذ في قلوبهم وأحز في نفوسهم من ضرب الحسام ، فطفقوا يكرون ويفرون ، ويقبلون ويدبرون ، حتي كان لهم الغلاب وشفاء حزازات النفوس . أما هند الثائرة الوالهة فقد جالت بينهم ودارت مهتاجة كاللبؤة تتربص الشر بالبطل المغوار حمزة بن عبد المطلب ، لأنه هو الذي قتل آلها في غزوة " بدر فأرسلت إليه وحشيا لكي يغتاله علي حين غفلة ؛ وكان حمزة رضي الله عنه من مزاويد المسلمين نهد إلي مقاحم النضال ، فداءاً عن الدين وحياطة للرسول الأمين ، فلما أغرت هند به وحشيا وأوغرت صدره عليه أعلى بلاء منكرا ، ولما مكنت له الخديعة ، وواتته الغفلة ، رمى حربته الماضية فأصابت مصرع حمزة ، واستعجل غيره من الأعداء ، فأجهز على القتيل بالطعن الوبيل ، حتى عمد ، وإذ علمت هند وثبت صوب الصريع كالأفعي ، فبقرت بطنه واستلت من أحشائه الكبد فلاكتها ثم لفظتها ، وأكبت عليه وهو مضرح بدمه فصلت أذنه وجدعت أنفه ، وأقبل من ورائها زوجها أبو سفيان فأمعن رمحه في فم الشهيد حتي هشمه ثم هشمه ، وعادت هند إلي قومها بعد أن مثلت بحمزة وقد تشفت نفسها بالثأر ، ونفعت غليل كبدها بإدراك الوتر فقالت نعير الأنصار بهزيمة " بدر " وتعلن شفاء نفسها من الحقد والغيظ في غزوة أحد :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان لي عن عتبة من سير

ولا أخي وعمه وبكرى

شفيت نفسي وقضيت نذري

 شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي علي عمري

حتي نوم أعظمي في قبري

أما وحشي هذا فكان عبدا لجبير بن مطعم القرشي . وقد ضاق بحياة الرق عند مولاه ، فعرض عليه أن يشتري منه حريته بمقتل حمزة عم النبي لأنه قتل طعيم بن عدي عم جبير في غزوة بدر الكبرى ، فرضي وحشي الحبشي بهذا الثمن ، إذ كان أهون عليه من ذل الرق وخلوعة ولما اشتري حريته فقدها ، إذ أيقن أنه مقتول إن ظفر به أنصار محمد ، فلم يجد مأمنا من خوفه ولا راحة من قلقه حتي ترامي إليه أن الإسلام يعصم دمه وان محمدا لا يثأر ممن يأتيه مؤمنا بالله ، فيسارع وحشي إلي مجلس النبي ندمان مستغفرا ، فيعفو عنه الرسول ، ولكنه لا يعفو هو عن نفسه ، فيستعين علي ندمه وآله بالخمر لكي ينسي فيفي . وبعد فلئن استهجنا الفتك والتنكيل من عبد رقيق استباح الدماء من أجل حريته ، فإننا نتقطع جريمة التمثيل بعم النبي صلى الله عليه وسلم من هند بنت عتبة . ولعمري إن هذه الفظاظة المنكرة ليست من شيم المرأة وهي الرقيقة عاطفة وطبعا ، الوديعة نفسا وشعورا ، ولكنها وصمة الجاهلية ودعوتها وسعير الضغينة والبغضاء . ما استطاعت هند علي الثأر كبتا ، ولم تصبر علي ما أصابها ، لأن الإيمان لم يفض علي قلبها برد العزاء وأمل الثواب .

وكانت لقريش في " أحد " صولات ظافرة ، وكان لدعوة الإسلام في هذه الملحمة الحمراء ، شهداء ابرار نعم الله عليهم بالخلود ، فلما وضعت هذه الوقيعة اوزارها ، بادر المسلمون إلي الضاحية المصبوغة ببحر الدماء ، المفروشة بجثث الأبطال ، ليلتمسوا هنالك قتلاهم وينقذوا جرحاهم ، ووقف رسول الله بجثمان عمه حمزة ، واجما محزونا ، وقد حامت عمته صفية حول أخيها الصريع ، فأوصاها بالصبر والاحتساب ، ثم امر ان يهدر دم هند جزاء تمثيلها بسيد الشهداء ، وبعد ملاوة من الزمان استراحت هند من

الأحزان فجامرتها  الندامة والتوبة ، وشرح الله صدرها للاسلام فجاءت النبي مبايعة مقنعة قائلة : يا رسول الله ، أحمد الله الذي اظهر الدين لتنفعني رحمتك ، يا محمد قد امنت بالله وصدقت برسوله . ثم كشفت القناع عن وجهها وقالت : أنا هند بنت عتبة . فقال رسول الله : مرحبا بك ياهند فقالت : والله ما كان على الأرض أهل خباء احب إلي أن بذلوا من خبائك . ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من خبائك !

ورجعت هند من لدن محمد إلي بيتها عامرة القلب بالإيمان ، مثقلة العنق بعفو الرسول ورحمة الدين ، إذ علمت أن إسلامها قد يغفر لها ما تقدم من ذنبها فانطلقت إلي معبودها المصنوع ، إلى صنم كانت في جاهليتها تدعوه فلا يستجيب لها ، فجعلته جذاذا وقالت كنا منك في غرور . . وفاض في قلب هند ينبوع الإيمان ، فغسل أرجاءه من أوضار الجاهلية ، وأسعد الله المرحلة الأخيرة من عمرها بالإسلام ، حتى ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنه .

(دمشق)

اشترك في نشرتنا البريدية