وصف العرب الرثاء فقالوا إن فيه مدحا للميت مع تفجع عليه . وانسحبوا على هذا الغرار منذ جاهليتهم ، إذا فقدوا حبيبا إليهم أو عزيزا لديهم بكوه بالدمع المدرار ، والمراثي الشجيات التي تفيض على قوافيها وفي تصاعيفها روح الفجيعة واللوعة ، وقد عدوا هذا اللون القاتم من شعرهم أرفع القريض وأكرمه
قيل لأحد شعرائهم ما بال المراثى أشرف أشعاركم ؟ فقال لأننا نقولها وقلوبنا محترقة ، ولابدع فالرثاء العاطفي الصادق صدي لما يحسه الشاعر من توجع وتفجع . فإذا هاج الشعر في قريحته محزونا أو مهموما ظهرت على أبياته أثار الحرقة في قلبه ، أو استفاضت في معانيها الخواطر التي تعرب عن مشاركة الشاعر لأهله أو قومه فيما دهمهم من هموم واحزان . وإن النفس الحساسة لتأنس وتسكن إلي المراثي التي تري فيها مرايا من فقدت وبكت ، وصور من احبت وفدت . ولقد تفننت الامم قديما وحديثا في رثائها وبكائها ، ولم يخل ادب شعب من اشعار باكية ودامية وكيف يستطيع الصبر ان يمسك بأطراف الجفون المنهلة وقد تدفقت من ورائها الشجون والحسرات بشآبيب العبرات ؟
كان غلاسفة الإغريق بتحاورون حول الموت والحياة حوارا فيه زفرات ولواعج ، وذلك ما فعله افلاطون في محاورة فيدون وكيف قص موت سقراط . وكان من روائع الأدب الفرنسي تلك البدائع الشعرية المطبوعة برهافة الشعور وشرف العاطفة ، المنبثقة من فؤاد محروق وكبد مفجوعة ، وسرعان ما تنفذ إلي الأرواح الحري والقلوب إلى تركن إلي العزاء وما جرى به القضاء ؛ ففي عصر الثورة الفرنسية كان الشاعر القتيل آندره شبنيه من ألمع أهل المراثي ، وكأنه لقدر محتوم سلك في الشعر مسلك السواد ، فلما ائتمر به ذوو الإرهاب وزج في غيابة السجن جعل ينتظر يوما تضرب فيه عنقه ، وقد نظم في محبسه شعرا
عاطفيا هو في أدب الفرنسيين دموع لا تنضب . وإذا تذكرت هوغو الفيته يبكي احر بكاء في قصائده التي رثي فيها بنته العروس وزوجها وقد فقدهما غريقين في نهر ، ثم فجع بولده فرثاه وبقيت في شعر هوغو تلك الأناشيد الأسيفة التي بكي شجره فيها . ولم يكن حظ الشعر العربي أقل من حظ الشعر الغربي بروعة المآسي وفجيعة الأحزان : فقد بدأ شعر الرثاء في الجاهلية ، وكانت الخنساء أصدق من بكى على القريب الحبيب في شعرها الدميع ، وزحمتها في عكاظ على الفخر والتنافس في شعر الرثاء هند بنت عتبة ، ولقد انبسطت آفاق هذا الشعر في قصائد الفحول من شعراء العرب كجرير والفرزدق وأبي تمام والبحتري والمتنبي ،ثم صار في عصر اليقظة والنهضة إلي البارودي ثم إلي شوقي وحافظ ؛ فرثى أبوتمام ولده وأخاه بقصيدة تنهمر على أبياتها الدموع تدليا ومخضلات ، وبكي البحترى الخليفة المتوكل وقصره الجعفري بما يشهد على أسفه الفرقدان وناح أبو الطيب على جدته التي طلب لها الرزق ففاتت وفاته وحثحت تسكب الدموع على خولة أخت سيف الدولة حتى كاد يشرق بالدمع كما يزعم ؛ وكان شوقي يقول :
يقولون ترثي كل خل وصاحب نعم ) إنما أقضى حقوق صحابي
وكان حافظ إبراهيم ينظم احزانا بأحزان ، وهو القائل في تحية الشام :
إذا تصفحت ديواني لتقرأني وجدت شعر المراثي نصف ديواني
هؤلاء الشعراء هم أشهر وأكبر من رثي وبكي في ماضينا القريب والبعيد ، ولكن ما خبر الشاعر الجديد الذي طلع بالأمس على دنيا العرب بشعر هتون ، كل بيت فيه لهفة وشكوي ، وبث ونجوي ، بل هو انات حائرة لكنها للمحزونين سلوي ؛ ذلك ديوان الشاعر المطبوع عزيز أباظة مدير البحيرة في مصر الشقيقة ولهذا الكتاب حديث يشف عن وفاء عجيب وشعور رهيف ، يهز النفوس
الوجيمات بصدقه ورقته ، ويأسي له القلب الرحيم ، وكيف لا يأسي علي سعادة تحطمت ، وأسرة تفرقت ، وأيتام ذهب الموت بأمهم الحنون وهي في بريق العمر ونضارة الحياة ، فمذ توفيت بات الزوج شقيا بأحلامه وأيامه ، فقد حز في نفسه أساها وهده نواها ، تلك زينب " أم أولاده التي كانت أمل صباه وهواه ، فشاء فراقها على نفسه كطير شريد وما لبث أن عاد إلي أطفاله بعد خطبه فضمهم إلي صدره ، ومزج قلوبهم الصغيرة بقلبه الكبير الذي وسع بالأمس الحب والأنس والمودة ، فهو يسع اليوم الحنان والإحسان ، فحنا عليهم وغناهم شعرا يفيض بالصدق والوفاء ، نهله فيه فجيعتهم بأمهم ، لم يتكف فيما سكب من الأنات ، ولا زلف فيما صعد من الزفرات ، وليست هذه القصائد الفاجعة بضائرة لهم ، فإنها لتصهر نفوسهم في بواتق النبوغ ؛ وإن ولدا يعلم قيمة أمه ومبلغ تأثيرها في أبيهم ، ليحتذي مثالها بالمروءة والإخلاص ، ويكون الأسى له أستاذا ومهمازا ، والدمع باعث حنان وإشفاق . وكان الأب اللهوف مؤمنا نقيا ، وقد أسبغ الله علي المؤمنين نعمة الصبر علي ما أصابهم . فلما حزن الشاعر أباظة وضج بقلبه الشجن الحبيس ، فزع حاجا إلي بيت الله الحرام يلتمس العزاء ؛ غير أن خيال القرينة رافقه فأشجاه وفجعه أن لم تقف معه وقفة الرضا على عرفات ، ولم تطوف بالعتيق ، فأنكر صحبه شجوه واناته ، وناجي ربه عند المشعر الحرام مستغفرا لها وله ، وفي عوالي مني " ذكرها على ضن ، وأقسم أنها كانت رحمة ومأمنا ؛ وفي " أيام التشريق ، فقه مسيره فترقرقت عبراته ، واهتاج حنينه لتري ختف في أحشائه أليفة صباه ؟ و علي قبر خديجة أم الزهراء أجهش قلبه وجاشت خواطره بالذكريات العذاب ؛ وفي نجوي و " ليلة وليلة ؟ ومن أطياف الماضي " و أشجان رمضان " أبيات داميات تنضح بشعر بليغ ، وحسرة كلوية ، وعزة بالماضي الآغر ، وعزاء
لجراحات القلوب
وما رجع الشاعر المحزون من منزل الوحي ودارات النبوة ، إلي بلده ، حتى جدد اللوعة وردد اللهفة ، لا يجد مفرا من شكاة بثه في شعر يتألق بالعروبة والعذوبة ، ولكنه كان متحرجا من نشره على الخلي والشجي من الناس ، حتى قيض لأديب العرب الدكتور طه حسين أن يستنشد الشاعر من رثايته ويستزيده من حديثه الذي بلغ قلب الأديب العظيم مخرقا لاذعا ، فأعجب بصوره الشعرية التي عبرت عن عواطف صادقة ، وصورت شجون قلب مكلوم . وقد كتب الدكتور طه حسين تصديرا لهذا الكتاب حلل فيه عواطف الإنسان تلقاء الأحزان ، ووصف شعر الأستاذ أباظة بمزايا الطبع وصدق الشعور . ومن العجيب في صاحب " الأنات الحائرة أنه لم يعرف شاعرا قبل اليوم ، وإنما عرف مديرا جديرا في مناصب الدولة ، ولقد فر من الشهرة فأدركته في زهادته بها ، وثارت أقلام أعلام في الأدب في خصومة وملامة حول التصدير الكريم الذي نوه فيه السيد بشعر الأنات زادت في شيوع شهرتها ورفعة صيتها ، على أن صاحبها قد أصاب برمية واحدة ما أخطأ غيره من الشعراء في طوال السنين وما عليه من حيف إن انسكبت مدامعه شعرا ، وحسبه نبلا أن جعل باكورة هذا الشعر رثاء لزوجته وأم أولاده فكان عزاء النساء في الوفاء ، وما أشبه رثاءه بمراثي الخنساء لأخيها قتيل حرملة ، وجرير الذي رثي زوجته بقوله :
لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولهت قلبى إذ علتني كبيرة وذوو التمائم من بنيك صغار
وقد يخطر في البال هذا مرثاة شاعر السيف والقلم محمور سامي البارودي الذي فجع بزوجته وهو في منفاه فقال يبكيها :
يادهر فيم فجعتني بحليلة أفلا رحمت من الضني أولادي
أما بكاء الشاعر أباظة فيتجلي فيما كتب لكبري بنتيه :
اسألي ربك يلهمك مع الصبر هداك
واثبتي للخطب واستعلي عليه بصباك
واذكري أمك وأبكيها ومن يبكي سواك
واحملي عبء أشقاك ولا تنسى أباك
ولعل مصعد " الأنات الحائرة " نفس عن قلبه المفجوع ، واشتفي بهذا الرثاء الذي لابد ان يعقب راحة من جواء ، فيطلع علينا بالغد القريب بشعر طريف يجول فيه كل مجال ، ويتصل بكل افق يبسط فنه وعبقريته
بقي أن أقول إن الشاعر عزيز أباظة سما بأناته الحائرة لحرمتها وكرامتها ، فلم يجعل منها كسبا وتجرا ، بل شاء أن تكون تذكرة غالية وهدية تهدي ، وكان لي نصيب منها فاللهم أفرغ صبرا على صاحب الأنات ، واحفظ له البنين والبنات ، وأجعله بعد الهم والحزن شاعر عز وفرحة للوطن .
) دمشق

