غضبت على ذات دل وحسن . ومن النساء من تدل ولا حسن لها . ومنهن الجميلة التي لا تدرك قيمة ماوهبها الله ؛ ولكن هذه عارفة مدركة اصح إدراك وادقه . واية ذلك انها لاتنفك وتؤكد خصائص جمالها وتيرزها بالوانالثياب , وأسلوب التفصيل ، وبطريقة تسريح الشعر وفرقه , وبحركانها ومشيتهاولفتة وجهها . والجانب الذى تؤثر ان تمنحكه منه ،وبابتسامتهاوخطرتها ووقفتها . وبالصورة التي تعرضها على عينك وهى متكئة على ظهر لرسى أو خافة شرفة ، إلى آخر ذلك إذا كان له آخر وسر هذا الغضب أنها تؤمن بالدلال - كما لايسعها إلا أن
تفعل - وأنى أنا أومن بقول المتنبي عليه ألف رحمة: زودينا من حسن وجهك مادا م فان الجمال حال تحول وصلينا نصلك فى هذه الدنيا فان المقام فيها قليل
فلها عقلها وطبيعتها ، ولي عقلي وطبيعتى؛ ومن أجل ذلك نحن مختلفان متجافيان - ترانى فتعرض عنى ، وأراها فأتجاوزهابعيني ، كأنها ليست هناك، وتراجع نفسها أحياناً فتصفو وتقول عفا الله عماسلف، وتومىء إلى إيماءة تجعلهاخفيفة خفية من الكبر والتردد، فأتجاهل وأتعامى وأتباله ، فترجع إلى شر مماكانت فيه من الغضب والسخط ، وتمنحنى كتفها أو تولينى ظهرها ، وتمضى الأيام على هذا التقاطع الشديد - أخرج إلى الشرفة وتكون هي مطلة من النافذة فتأخذنى عينها ، فما أسرع ما تتناول مصراعى الشباك وتغلقهما بعنف لا داعى له سوى أنها تريد أن تسمعنى صوت الاغلاق لأدرك معناه . وأكون أنا فى الشرفة فتظهر فى نافذتها أو شرفتها ، فلا أكاد أراها حتى أعبس وأمط بوزى . كان من سوء حظي ألا أستطيع أن أقف فى الشرفة دقائق من غير أن تسد الفضاء أمامي ، ثم أدور دورة سريعة وأرتد إلى الغرفة ملتمساً الوقاية من جدرانها
ولم يكن هذا حالنا من قبل ، بل كنت أقبل عليها قتهش لى وترينى وميض أسنانها والتماع عينيها ، وكنت ألقاها فتدنو منى حتى لأحس أنفاسها العطرة على وجهي ، وتضع راحتها البضة على قلبى وتقول لى:" كيف حال هذا المسكين الذى لا يمل الدق بل الوثب "؟ فأقول " أتريدين أن يمل "
فتقول " أعوذ بالله .. ما هذا الكلام يا شيخ .." فأصرف الكلام عن وجهه وأقول " إنه يدق لذلك ، فلا مجب إذا كان يتوثب " فتبتسم لى - فى عينى - وتقول :"ألا يمكن أن يفتر ذكرك لى - يفتر قليلا-ليرتاح هذا القلب بعض الراحة ..إنه عنيف الدق وأنا أشفق عليه ، فاقول " لاتخافى عليه ولاتجعلى اليه بالك ,. دعيه يدق فان هذا عمله وواجبه فى الحياة "
ثم نمضى معاً إلى حيث يروق القعود ويطيب الحديث وتحلوالنجوى ويحسن الغزل، ونرجع ضاحكين وننام ملء عيوننا
وقلت لها مرة ،لماذا هذه المساحيق كلها .. ماحاجتك إليها ؟ كيف يمكن أن يفتقر إلى زيفها هذا الوجه الخارج من الفردوس ؟ فضحكت وقالت " أهو زيف.. ؟ " قلت مغالطاً " إنه تأكيد لا حاجة بك إليه "
قالت " يا خبيث .. اعترف أنك تريد أن تقبل فمى وتخشى أن يعلق بشفتيك الأحمر ! " قلت " ألا يكون مجنونا أو أعمى ذاك الذى لا يشتهى أن يقبل هذا الفم الجميل ! "
قالت " لا تغالط .. دع العموم إلى الخصوص " قلت " أتتعمدين أن تضعى هذا الأحمر إذن .؟ قالت " لا .. هي عادة ليس إلا .
قلت ملحاً : " أتكرهين أن أقبلك .. أو بعبارة أصرح فان عفريت الصراحة ر كبنى اليوم .. ألا تشتهين هذه القبلة التى تقيمين فى سبيلها الحواجز وتضعين الأسلاك الشائكة أو الأصباغ العالقة ؟ "
وقالت " مالك اليوم .. ماذا جرى لك ؟" قلت ": إن الذى جرى لى هو هذا .. انت تعرفين أني أحب فمك .. وأنت لا تكرهين أن أضع شفتى على شفتيك .. وتعرفين أيضاً أنى شديد الكزه لهذا الأحمر السخيف ، وتعرفين وفوق هذا أن إزالته سهلة إذا هو علق بفمى منه شيء يسير أو كثير ، ولكنى مع ذلك أكرهه لله .. هكذا أنا . خلقنى الله كذلك ولا حيلة لى .. فلماذا تصبغين به شفتيك على الرغم من ذلك . ليس الأحمر فى ذاته هو الذى يضايقي ولكن تعمد
وضعه . إذا كان الدلال هو الباعث على ذلك فان الدلال ميسور بغير الأحمر . وعلى أن الدلال حسن وجميل , وهو يشحذ الرغبة ويقوى الحب إذا كان فى حدود الاعتدال ولم يجاوز المعقول أو المحتمل.. أى ما يسهل على الرجل احتماله بلا عناء شديد أو مرهق، ولكن المرأة لا تفهم هذا مع الأسف،وهي لا تزال تلح فى الدلال وتلح وتلح حتى يسأم الرجل وتنتفخ مساحره ويتعذر عليه الصبر ويضيق صدره فيفتر حبه ، لأنه يكلفه فوق ما تطيق أو ما يمكن أن تحتمل طبيعته،فتذهب المرأة تقول غدر الرجال وعدم وفائهم وتقليهم، ولو أنصفت للامت نفسها ولأدركت
أنها هي التي أملته وأزهقت روحه فقطبت وقالت " أهذا تهديد؟ " قلت " وهذا خطأ آخر .. فليس فيما أقول تهديد وإنما هو عجب واستغراب يدعو إليهما اختلاف الطبيعتين .. " فقاطعتنى وقالت " قل إن طبيعتك المتجبرة تريد أن تجعل منى ملهاة لنفسك لاتخالف لك إرادة ولا تعصى لك أمراً.. " ققاطعتها وقلت : "كلا : ليس هناك تجبر ولاشبهه ، إنما أشرح لك ماتغريك به طبيعتك وما تغرينى به طبيعتى .. "
ولا أحتاج أن أروى كل ما قالت وقلت ، فان فى مقدور القارئ أن يتصور ذلك ، وأكبر الظن أن تجارب مثل هذه مرت به وعاناها , فما تعيش المرأة بغير رجل ولا الرجل بغير امرأة إلا فى الندوة القليلة والفلتة المفردة ومتى عاش رجل وامرأة فلا مفر من أن تسوقهما الطبيعتان إلى الشجار والنقار فى بعض الأحيان ، وأكثر ما يحدث ذلك من جراء توافه لا قيمة لها ، ولا يجرى فى الخاطر أن تجر إلى خلاف .
وقد حاولت يومذاك أن ألاعبها وأمازحها بعد فتور الحدة وذهاب السورة ، ولكن تعبي ذهب عبثاً ، ورجعنا وقد أيقن كل منا أن هناك سراً أعوص لما أبدى صاحبه من الجفاء وضيق الصدر.
ولقيتها بعد ذلك ، فقلت لنفسي إن العتاب بجدد مرارة الخلاف ، ولم يكن لي ولا لها مفر من الكلام والنفاق , فقد كنا فى حفل حاشد من المعارف والأهل , وانفض السامر فناولتها ذراعى وقلت "تعالى فأن بى حاجة إلى الهواء الطلق " فابتسمت ، فتوهمت أنها نسيت ما كان بيننا أو آثرت مثلى أن تطويه . وإذا بها تقول لي أول ما تقول ونحن في السيارة " إنك مستبد " فعجبت وقلت : " كيف .؟ لقد كنت أظن أنى من ألين خلق الله وأسلسهم قياداً" فصاحت فى " أنت .. تقول إنك لين سلس القياد .. أعوذ بالله.."
قلت وأنا أحاول أن أصرفها عن هذا الموضوع الشائك " طيب .. آمنا وسلمنا .. مستبد مستبد .. كما تشائين.. والآن يا جاحدة .." وكنت أنوى أن أمازحها ، ولكنها قاطعتنى بسرعة وحدة: " جاحدة .. لماذا بالله .. هه "
فقلت لنفسى إن ليلتى لا شك سوداء .. وأنا رجل أكره الجدل العقيم ولايثقل على نفسى شىء مثله ، ولست أعرف لى صبراً عليه، غير أنى ضبطت نفسى ولم أدع عنانها ينفلت من بين أصابعى فقلت : "معذرة.. إنى أضحك ولا أعني ما أقول "
قالت " واعترف أنك مستبد " قلت " إذا كان الاعتراف بما ليس فىّ يرضيك ، فهأنذا اعترف وأمرى إلى الله " قالت " كلا .. إنما أريد اعترافاً صريحاً لا مكابرة ولا تحفظ فيه "
قلت " فليكن ولكن ما خيّره ؟. ماذا يفيدك أن أقر لك بأنى مستبد ؟ .أما إن هذا لغريب " قالت " اعترف والسلام .. لست أريد فلسفة" قلت " اعترفنا ياستى .. فهل راق مزاجك ورق " فضحكت وقالت: " نعم " قلت: " إذن امسحى الأحمر الذى صبغت به شفتيك ، أو دعوى أمسحه لك بهذا المنديل.. إنه نظيف "
قالت " كلا " وأصرت على الرفض والتأبى فقلت :" ألا تدركين أنك مغرورة ؟ " فاحمر وجهها كأنما أفرغت على وجنتيها كل ما فى الدنيامن الأحمر ، فقلت وقد تعمدت أن أثقل عليها: " نعم مغرورة .. ولم أكن أحسب شوقى رحمه الله صدق فى قوله : والغوانى الخ .. تعرفين الباقي .. وأحسيك تتوهمين أن حياتى رهن بأن تمسحى هذا الأحمر .. أو أن روحي معلقة بشفتيك وما يكون أو لا يكون عليهما من الصباغ السخيفة..ثقى أن الأمر ليس كذلك ..إنما أنصح لك بمسح الأحمر لأنه... "
وأمسكت إشفاقاً عليها من اللفظ القاسي الذى كان على لسانى فسكتت و لم تقل شيئا والغريب أنها بعد أن نزلت أمام منزلها وودعتها تعمدت أن تقف هنيهة قبل أن تدخل من الباب وتخرج منديلا صغيراً وتمسح به الأحمر عن شفتيها وفى يدها الأخرى مرآة الحقيبة وكان هذا آخر عهدي بلقائها وكلامها ولا تزال المعركة ناشبة ، وأحسبنا سنمل هذه الحرب الباردة - حرب الشفاه الممطوطة والأكتاف المهزوزة والأشاحة
بالوجه والاعراض بالعين وتقطيب الحواجب وتجعيد الجبين ، إلى آخر هذه المناظر المضحكة ، ولولا أنى لا أعدم القدرة على رواية الجانب المضحك لانفلقت، ولكنت حرياً أن ألقى السلاح وأعدل عن الكفاح ، ولكنها هي متكبرة.. أوه جداً جداً . وأنا كما تعرف .. دائم الضحك - هذا أولا - وأما ثانياً فانى لا أنفك أقول لنفسى : لقد عشت قبل عهدها دهراً طويلا لا تحس بالحاجة إليها ولا تعرف أنها موجودة ، وإنك الآن لتحيا بغيرها ، ولاتعدم نعيما تفيده بدونها ومن غيرطريقها , فماذا ينقصك ولماذا تعني نفسك بالتفكير فى الأمر كله ...؟ دع كل شىء للظروف والمصادفة.. وليكن ما يكون .. ولكن يخطر لى أحياناً أني قد ألقاها ولا أرى على شفتيها هذا الأحمر ، فماذا يكون العمل حينئذ ؟. أقول لك.. دع هذا أيضاً للمصادفة وإلهام الساعة ، إن التدبير هنا قلما يجدي أو يصح ..
ولكن ضحكي يخنقها ، وابتسامى يثير سخطها , وأنا لا أستطيع ان أكره نفسى على التعبيس بلا موجب ، وهذا هو البلاء والداء العياء ، فانها تتوهم أنى أسخر منها فتزداد لجاجة فى الصد والاعراض ، وأحسبنى سأظل هكذا أبداً .. أفسد على نفسى متع الحياة بسوء تصرفى وقلة حكمتى ، فلا حول ولا قوة إلا بالله !
