-٣-
قد تحس بعض النفوس المسلمة وغير السلمة في داخلها بالنفور من الإسلام كما ذكرت الدعوة إلى الإسلام . وقد يدفعها ذلك الإحساس لمحاربة الاسلام وتجيد القوى المادية والأدبية لمحاربته . وأخذ الداعين إليه بكل أيام العنف والقسوة . ولذلك نري في المجتمعات الإسلامية مآسى دامية تنفطر لها القلوب أسي وحزنا نزلت بكل نبتة إسلامية قبل أن تؤتي ثمارها الطبية ، بل قبل أن تشتد ساقها ؛ والقائمون بكبر هذه المآسي من الذين ينتسبون للأسلام ويعتقدونه . ويتخذ هؤلاء الذين يثدون هذه النبتات الطبية قبل اشتداد عودها مبررات شتى يبررون بها شدتهم وقسوتهم . ولسنا بصدد تفنيد هذه المبررات ، ولكننا بصدد البحث عن عله هذه الظاهرة في مجتمعاتنا . . فما الذي يؤلب قوي الشر كلها على الجماعات الإسلامية التي تنبت في المجتمعات لإصلاحها إصلاحا يرتكز على العقيدة التي لا يمكن لبناء الأمم والشعوب أن يقوم بدونها !!
إن السبب الصحيح - على ما يبدو لي - لا يكمن في الحقد على تلك الجماعات ، وإنما هو كامن في الحقد على الإسلام نفسه متمثلا في تلك الجماات . بالدعايات المنظمة ضد الاسلام التى ثيرها اوربا وترصد لها الأموال والرجال بكرم وسخاء ودسائسها الخفية التي تدسها دسا متقنا في آدابها وعلومها والقوة العلمية والعقلية التي امتاز بها الغريبون ، وانتشار النفوذ والسلطان وإتقان فن الحياة في حالتى السلم والحرب ، كل ذلك عمل عمله في النفوس والأفكار ، حتى تزعزع موضع الإيمان من قلوبنا . وما كان لهذا الإيمان أن يتزعزع لولا أن هناك ما هو أهم من ذلك . وهو الذي مهد لهذا الغزو القتال الفائك طريقه إلى مكمن العقيدة . لقد أطل
الإسلام علينا بعد عصوره الأولى بصورة لا يمكن أن تهش لها النفوس . وليس فيه ما يغري علي الاستعماك به كدين ودولة ، لأننا رأيناه في صورة طواغيت مستبدة تصادر الحرية وتحتكر الفكر ، وتتحكم في الضمائر ، وتسفك الدماء البريئة ، وترتكب أشنع أنواع المظالم ، وإذا قيل لها أتقى الله أخذتها العزة بالإثم . وأطل علينا في صورة دويلات هزيلة تقوم هنا وهناك ترتكز على النعرات الطائفية أو الإقليمية المقيته ، وتؤجج نار الأحقاد والضغائن بين أبناء الملة الواحدة ، أو الوطن الواحد باعمالها وتصرفاتها . وأطل علينا في صورة أشخاص يظهرون بمظهر المحتضن للدين الذاب عنه القائم عليه ويحملون وجه الحياة أسود قاتما وآفاقها خانقة قاتلة تحت ظلالهم . . وأطل علينا في صورة طرائق صوفية تصرف الناس عن الحياة ، ولا تعنى بشئونها ، وتغمس اتباعها في لجة سحيقة من الشطحات والأوهام والأحلام المنافية لحكمة وجود الإنسان على وجه الأرض . وأطل علينا في صورة مؤلفات صفراء تطمس العقول وتأكل الأعمار دون أن تقيد الحياة والأحياء بشيء ينفعهم . وأطل علينا في صورة نكايا وأربطة تقص بجموع الكسالي والمتبطلين يزيدون المجتمع أثقالا علي أثقاله بالإنفاق عليهم ، بحجة أنهم صلحاء المسلمين وخيارهم . وأطل علينا في صورة علماء ضيقي الصدور والعقول واسعي الأردان والعمائم متزمتي السيرة والأخلاقي ، لا يبالون أن يحكموا بالكفر على كل مخالف لهم . ولم تزل في مجتمعاتنا من هؤلاء بغايا يحرمون علوم المنطق والفلسفة والجغرافيا والفلك والكيمياء والتشريح والرسم والنحت والتصوير والموسيقى والشعر . وأطل علينا في صورة
جدل مذهبي عقيم لولا ما ينتجه من المباعدة بين الناس وما يصلحهم . وأطل علينا بصور عديدة كثيرة كلها تجعل الحياة جحبها لا يطاق فليس بدنا - بعد هذا كله - أن يتسأل الشعور بالفرة إلى بعض القلوب إذا ما ذكر الإسلام أو ذكرت الدعوة إليه . وليس بدعا بالتالي أن تنمو بذور الحقد والكراهية على الجماعات التى تنادي بالعودة إليه ... وليس بدعا أن يكون لعمل الدعايات والدسائس المضادة للإسلام تأثيرها البالغ فينا .
وليس بدعا أن يقوم بيننا فريق يدعو إلي فصل الدين عن الدولة مقلدا في ذلك أوربا حينما فصلت الكنيسة عن الدولة ومتأسيا بها ، وليس بدعا أن يقوم بعض العلماء السطحيين من المسلمين ويؤلفون - مساندة لذلك الرأي - مؤلفات ، تجد رواجا وحدث ضحة . وليس بدعا أن يجد دعاة المذاهب الغربية المختلفة بينا محبذين ومروجين لدعوتهم ودعاياتهم . وليس بدعا أن تنجم في مجتمعانا ظواهر مخيفة مزعجة كالاغتيالات وما يعقب هذه الاغتيالات من فجائع مدمرة . إن كل أولئك معاول هدامة مسلطة علينا من الداخل والخارج . ونحن في جلبة هذا الهدم المروع مدفونين تحت الغبار والأنقاض ، وإن كنا نسير فإنما هو سير الذاهل لا يعرف لسيره وجهة معينة . مع أننا إذا رجعنا إلى منابع الإسلام الأولى وأزلنا ما حولها من ركام تكاتف عليها بمرور العصور المظلمة والأجيال المنحرفة ، فإننا نجده من البساطة والوضوح والإشراق عبث لا نجد فيه النفوس ما يصدمها أو صرفها من الإقبال عليه والاخلاص له . فضلا عن الحقد والكراهية وتأليب القوي لمناهضته .
وهنا يحمل بنا أن نستعرض خطوط الإسلام الأولية التي رسمها لبناء دولته ومجتمعاته .
وأول ما يجب أن تعرفه عن الإسلام أنه دين الفطرة . والفطرة في التعبير الحديث الطبيعة ، ولا يمكن للفطرة أن يكون دينها مضادا لها في شيء أو تكون تعاليمه مناقضة لطبائع الأشياء ، بحيث تكون تعاليم غير عملية أو غير قابلة للتنفيذ إلا بإرهانها وتحميلها ما ليس في طاقتها ووسعها .
وللانسان في تكوينه استعداد جعله أكرم ما في الطبيعة من كائنات حية . ولا يستقيم في العقل أن تأتى بدين غايته تحطيم هذا المخلوق الكريم بالاعتساف والإرهاق ؛
لأن الإسلام يعترف بهذه الكرامة "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ". ومن هنا نعرف أن الإنسان ليس شيئًا تافهًا في الإسلام؛ وبمعرفتنا هذه الحقيقة الأساسية نستطيع أن نعرف التعاليم الإسلامية معرفةً لا تتجافى مع هذه الحقيقة في شيء، وما تجافى معها نستطيع بسهولة أن نتبيَّن زيفَه أو عدم أصالته في الإسلام، ونستطيع أن نعرف أنه من الأشياء الدَّخِيلة على دين الفطرة الذي يكرِّم الإنسان ولا يعتده شيئًا تافهًا.
وحقيقة أخري يجب أن تلم بها قبل أن يلتهمنا الحديث عن الخطوط الأولية التي رسمها الاسلام لبناء دولته وسياسة مجتمعاته ؛ هذه الحقيقة هي أن للانسان عقلا يفكر وللتفكير . اثره البالغ في وجدان الانسان . والوجدان القلق الثائر المضطرب عديم الجدوي لا يستطيع أن ينتفع بأطايب الحياة ، ولا يستطيع أن يؤدي رسالته في الحياة على الوجه المطلوب والفطرة تواقة إلى الطمأنينة الوجدانية لتنصرف طاقة الإنسان إلي كل ما هو مجد ونافع ؟ فكان الإيمان من أولى الواجبات في الإسلام ؛ وإذا امتلأ الوجدان بالإيمان اقتلع الشك والحيرة والخواء من النفس الإنسانية ، واقتلع إلى جانب ذلك كل ما تزخر به النفس من أوهام ومخاوف وخرافات وأضاليل ووساوس تبدد الطاقة . وتشوب التفكير السليم والفهم الناصع بالعوج والتعكير ؛ وليس معنى هذا أن الايمان بصادر التفكير أو يقف به عند حد ، لا بل يجعل من هذا الإيمان نقطة ارتكاز يستند عليها التفكير ليؤدي إلي نتيجة تدفع إلى العمل والتحمس له . أما التفكير الذي لا يبني على قاعدة فهو لا ينتهي إلى شئ دائما ، ولذلك نجد كل تفكير أدى إلى نتيجة كان مركزا على قاعدة ولو فرضا . والتفكير عند الإسلام لا يبني على الفروض والتخمينات ، ولكنه يبني على إيمان جارم لتكون نتائجه غير قابلة الشك الذي لانهاية له ولا نفع فيه .
لقد اضطُر أفلاطون لبناء مدينته الأفلاطونية الفاضلة أن يبني تفكيرَه على خرافة حتى يستقيم له البناء المنطقي. فكانت مدينتُه مدينةً خرافية غير عملية؛ ولذلك لم تتحقق في عصر من العصور. ولكن الإسلام لا يلجأ إلى الخرافات في إقامة بنائه! ولذلك قامت دولته الفاضلة ردحًا من الزمان أضاء بها تاريخ الإنسانية إضاءة وهَّاجة غير مَنْكُورة، وما زالت تلك الأضواء واضحة الأشعة تنير لنا الطريق وتجتذبنا بقوة إلى سلوكها..
(يتبع)
