الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 418الرجوع إلى "الثقافة"

إصلاح الأداة الحكومية

Share

كثرت الشكوى من الأداة الحكومية وكثر الحديث عن إصلاحها وتحدث الكتاب عن حاجة الموظفين وهم أجزاء هذه الأداة  إلى الأخلاق ونسبوا كل عيوب الأداة إلى ضعف الأخلاق

ولست أنكر أن الأخلاق هي أساس كل نجاح وتوفيق ولكننى أنكر أن الموظفين فى حاجة إلى درس أو دروس فى الأخلاق لكي تنصلح الأداة الحكومية

نحن الموظفين ثمرة جهود وزارة المعارف فى خمسين سنة وثمرة جهود غير وزارة المعارف من هيئات التعليم فى مصر والخارج فليس منا إلا من قد قطع مراحل من التعليم سواء أكانت كاملة أعنى أنها تشمل مرحلة التعليم الجامعى أم غير كاملة فوقفت قبل أن تبلغها

ولقد كان حظ الأخلاق من العناية حظا وافرا فقد علم كل منا عن الواجب والقيام به والأمانة والمحافظة عليها وحسن المعاملة ولين الجانب والصبر والجلد والأناة والحلم والحزم والصدق والدأب وغيرها من كريم الصفات ما يكفى لأن يخلق منه موظفا من الطراز المثالى وما منا إلا من كتب موضوعات إنشائية عن كل خلة من هذه الخلال وعن غيرها مما لم أذكره وما منا إلا من إذا حدثك عن الأخلاق ملأ اذنيك من الحديث عنها ولكن قل منا من يؤدى عمله طبقا لدستور هذا العلم الذى تعلمناه

لسنا فى حاجة إلى العلم بالأخلاق الفاضلة الكريمة  فإذا قال قائل بضرورة غرس هذه الأخلاق فى أنفس النشء قلنا لقد سهر المعلمون فى نصف القرن الماضى وأفنوا أعمارهم فى هذا الغرض فأحسنوا غرسه ولكنه لم يأت أكله فكل محاولة إذا للغرس من جديد هى

محاولة نصيبها نصيب سابقتها

إن مثلنا نحن الموظفين فى أداء عملنا على غير الطريقة التى نعلم أنها الطريقة المثلى كما علمنا معلمونا وكما أدبنا مؤدبونا فإنهم من غير شك قد أحسنوا القيام بواجبهم فى تعليمنا وتأدبينا أقول إن مثلنا كمثل أهل الكوفة إذ جمعهم الحجاج فخطبهم وأظهر لهم عينين حمراوين يقدح منهما الشرر وإذ أمر غلامه أن يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين فقرأ

من أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة السلام عليكم  فلم يرد أحد التحية

فقال الحجاج أصمت يا غلام ثم أقبل على الناس فقال لهم أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلم يرد أحد منكم عليه السلام  هذا أدب ابن نهية وابن نهية هو الحاكم الذى خلفه الحجاج  أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب  ثم التفت الحجاج إلى غلامه فقال له اقرأ كتاب أمير المؤمنين

فلما قرأ الغلام من أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة  السلام عليكم  لم يبق فى المسجد وقد كان الاجتماع فى المسجد إلا من قال وعلى أمير المؤمنين السلام

لم يكن أهل الكوفة يجهلون أدب القرآن إذ يأمر برد التحية بأحسن منها أو بمثلها ولكنهم ما كانوا يسيرون حتى تلك اللحظة طبقا لدستور هذا الأدب رغم علمهم به فلما وجدوا من يرغمهم على احترام هذا الدستور الذى يعلمونه احترموه وساروا عليه

كذلك نحن الموظفين ليس فينا من لا يعلم الواجب عليه كموظف ولكن فشت فينا روح الاستهتار بما علمنا وما أتفقنا العمر فى تعلمه فشت تلك الروح لأن المهمل لا ينال عقوبة إهماله ولأن المجد لا ينال ثمرة جده ولأن

ترقية الموظف ليست رهنا بأمانته فى أداء واجبه إنما هى رهن بمن يأخذ بيده من ذوى النفوذ والسلطان من ذوى قرباء أو من صهره حتى لقد أصبح الموظف الدؤوب الذى يحافظ فى مواعيد العمل و ويتفرغ لعمله سخرية زملائه يتهمونه بالخوف ويرمونه بالجبن ويحملون قيامه بالواجب على محمل الاستكانة والضعف بل إن هذا الدؤوب يصيبه اليأس ويدركه داء التراخى حين يتلفت حوله فإذا كل لاعب ماجن من زملائه قد تخطاه وإذا به لم يجن من دأبه إلا بياض الشعر وانحناء الظهر وسوء الحال وليت ما حل به من خيبة أمل يقف أثرها عنده ولكن تابعيه ومن يأتون من بعده يتخذونه عبرة لهم فلا يجدون جده حتى لا يصيبهم ما أصابه فهم يجنحون إلى التراخى والتهاون فإن أسعدهم الحظ فتقدموا كان تقدمهم سهلا لينا لا إرهاق فيه ولا جهد وإن تأخروا مثله لم يأسفوا على ما بذلوا من جهد وما حرموا أنفسهم من فرص

ليس الموظفون فى حاجة إلي العلم بالأخلاق إذا فمن العبث أن نشير عند وصف العلاج للأداة الحكومية بضرورة بث الأخلاق الفاضلة فإنها كما قلت مبثوثة معروفة ولكن مع إيقاف التنفيذ

نحن فى حاجة إلى حجاج يخاطبنا كما خاطب الحجاج أهل الكوفة فيقول لنا إنه لا يغمز جانبه كتغماز التين ويقول لنا إنه ليرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإنه لصاحبها ويقسم لنا إنه ليرى الدماء بين العمائم واللحى ويطالبنا بأن نسير على الأدب الذى تأدبنا به

عندئذ يقتضب كل منا واقفا ويستجمع كل منا قواه ويعمل كل منا بالأدب الذى تعلمناه  فنؤدى العمل طبقا للأخلاق التى كتبنا عنها مواضيع الإنشاء والتى إذا تحدث أحدنا عيها أجاد الحديث فإذا رأيته يؤدى عمله لم تجد

أصدق فى وصفه من المثل العامى تحلف لى أصدقك أشوف أمورك أستعجب

لو أن الموظفين يجهلون كيف يجب أن تكون أخلاق الموظف لقلنا مع القائلين إننا فى حاجة إلى الأخلاق أما ونحن على حالنا من العلم بكل خلق كريم فلم يبق إلا أن نساق إلي أداء الواجب طبقا لما يمليه دستور الأخلاق ولنا عودة إلى الطريق الذى يصل بنا إلى هذا الغرض

اشترك في نشرتنا البريدية