كثرت الشكوى من الأداة الحكومية وكثر الحديث عن إصلاحها وتحدث الكتاب عن حاجة الموظفين وهم أجزاء هذه الأداة إلى الأخلاق ونسبوا كل عيوب الأداة إلى ضعف الأخلاق
ولست أنكر أن الأخلاق هي أساس كل نجاح وتوفيق ولكننى أنكر أن الموظفين فى حاجة إلى درس أو دروس فى الأخلاق لكي تنصلح الأداة الحكومية
نحن الموظفين ثمرة جهود وزارة المعارف فى خمسين سنة وثمرة جهود غير وزارة المعارف من هيئات التعليم فى مصر والخارج فليس منا إلا من قد قطع مراحل من التعليم سواء أكانت كاملة أعنى أنها تشمل مرحلة التعليم الجامعى أم غير كاملة فوقفت قبل أن تبلغها
ولقد كان حظ الأخلاق من العناية حظا وافرا فقد علم كل منا عن الواجب والقيام به والأمانة والمحافظة عليها وحسن المعاملة ولين الجانب والصبر والجلد والأناة والحلم والحزم والصدق والدأب وغيرها من كريم الصفات ما يكفى لأن يخلق منه موظفا من الطراز المثالى وما منا إلا من كتب موضوعات إنشائية عن كل خلة من هذه الخلال وعن غيرها مما لم أذكره وما منا إلا من إذا حدثك عن الأخلاق ملأ اذنيك من الحديث عنها ولكن قل منا من يؤدى عمله طبقا لدستور هذا العلم الذى تعلمناه
لسنا فى حاجة إلى العلم بالأخلاق الفاضلة الكريمة فإذا قال قائل بضرورة غرس هذه الأخلاق فى أنفس النشء قلنا لقد سهر المعلمون فى نصف القرن الماضى وأفنوا أعمارهم فى هذا الغرض فأحسنوا غرسه ولكنه لم يأت أكله فكل محاولة إذا للغرس من جديد هى
محاولة نصيبها نصيب سابقتها
إن مثلنا نحن الموظفين فى أداء عملنا على غير الطريقة التى نعلم أنها الطريقة المثلى كما علمنا معلمونا وكما أدبنا مؤدبونا فإنهم من غير شك قد أحسنوا القيام بواجبهم فى تعليمنا وتأدبينا أقول إن مثلنا كمثل أهل الكوفة إذ جمعهم الحجاج فخطبهم وأظهر لهم عينين حمراوين يقدح منهما الشرر وإذ أمر غلامه أن يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين فقرأ
من أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة السلام عليكم فلم يرد أحد التحية
فقال الحجاج أصمت يا غلام ثم أقبل على الناس فقال لهم أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلم يرد أحد منكم عليه السلام هذا أدب ابن نهية وابن نهية هو الحاكم الذى خلفه الحجاج أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب ثم التفت الحجاج إلى غلامه فقال له اقرأ كتاب أمير المؤمنين
فلما قرأ الغلام من أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة السلام عليكم لم يبق فى المسجد وقد كان الاجتماع فى المسجد إلا من قال وعلى أمير المؤمنين السلام
لم يكن أهل الكوفة يجهلون أدب القرآن إذ يأمر برد التحية بأحسن منها أو بمثلها ولكنهم ما كانوا يسيرون حتى تلك اللحظة طبقا لدستور هذا الأدب رغم علمهم به فلما وجدوا من يرغمهم على احترام هذا الدستور الذى يعلمونه احترموه وساروا عليه
كذلك نحن الموظفين ليس فينا من لا يعلم الواجب عليه كموظف ولكن فشت فينا روح الاستهتار بما علمنا وما أتفقنا العمر فى تعلمه فشت تلك الروح لأن المهمل لا ينال عقوبة إهماله ولأن المجد لا ينال ثمرة جده ولأن
ترقية الموظف ليست رهنا بأمانته فى أداء واجبه إنما هى رهن بمن يأخذ بيده من ذوى النفوذ والسلطان من ذوى قرباء أو من صهره حتى لقد أصبح الموظف الدؤوب الذى يحافظ فى مواعيد العمل و ويتفرغ لعمله سخرية زملائه يتهمونه بالخوف ويرمونه بالجبن ويحملون قيامه بالواجب على محمل الاستكانة والضعف بل إن هذا الدؤوب يصيبه اليأس ويدركه داء التراخى حين يتلفت حوله فإذا كل لاعب ماجن من زملائه قد تخطاه وإذا به لم يجن من دأبه إلا بياض الشعر وانحناء الظهر وسوء الحال وليت ما حل به من خيبة أمل يقف أثرها عنده ولكن تابعيه ومن يأتون من بعده يتخذونه عبرة لهم فلا يجدون جده حتى لا يصيبهم ما أصابه فهم يجنحون إلى التراخى والتهاون فإن أسعدهم الحظ فتقدموا كان تقدمهم سهلا لينا لا إرهاق فيه ولا جهد وإن تأخروا مثله لم يأسفوا على ما بذلوا من جهد وما حرموا أنفسهم من فرص
ليس الموظفون فى حاجة إلي العلم بالأخلاق إذا فمن العبث أن نشير عند وصف العلاج للأداة الحكومية بضرورة بث الأخلاق الفاضلة فإنها كما قلت مبثوثة معروفة ولكن مع إيقاف التنفيذ
نحن فى حاجة إلى حجاج يخاطبنا كما خاطب الحجاج أهل الكوفة فيقول لنا إنه لا يغمز جانبه كتغماز التين ويقول لنا إنه ليرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإنه لصاحبها ويقسم لنا إنه ليرى الدماء بين العمائم واللحى ويطالبنا بأن نسير على الأدب الذى تأدبنا به
عندئذ يقتضب كل منا واقفا ويستجمع كل منا قواه ويعمل كل منا بالأدب الذى تعلمناه فنؤدى العمل طبقا للأخلاق التى كتبنا عنها مواضيع الإنشاء والتى إذا تحدث أحدنا عيها أجاد الحديث فإذا رأيته يؤدى عمله لم تجد
أصدق فى وصفه من المثل العامى تحلف لى أصدقك أشوف أمورك أستعجب
لو أن الموظفين يجهلون كيف يجب أن تكون أخلاق الموظف لقلنا مع القائلين إننا فى حاجة إلى الأخلاق أما ونحن على حالنا من العلم بكل خلق كريم فلم يبق إلا أن نساق إلي أداء الواجب طبقا لما يمليه دستور الأخلاق ولنا عودة إلى الطريق الذى يصل بنا إلى هذا الغرض
