في اليوم الذي أغادر فيه مصر إلى مدينة الخرطوم بالسودان مقر عملي رأيت أن أقدم تحيتي إلى الرسالة وصاحبها الجليل لما لها من أثر في الثقافة العامة في السودان، ولما للمتأدبين وأهل العلم هناك من عناية فائقة بما تنشر الرسالة من بحوث قيمة وأدب بارع
وبينما كنت أقلب الأوراق استعداداً للسفر وقع نظري على مقال في مجلة (الاثنين) في أواخر مايو الفائت لصاحب المعالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير الأوقاف بعنوان (ثورة على المدرسة المصرية) كان قد نشره قديماً وقال: إنه لا يزال عند رأيه هذا. جاء فيه (والواقع أن موقف المدرس من الطلبة كموقف (سواقي الأنفار) سواء بسواء. يرى أنه أدى واجبه
حينما يقطع مقداراً معيناً من الدروس لا حينما يلمح نجاحه في تربية عدد من الطلبة وتهذيبهم، فهو بذلك خدم الدروس، ويستخدم الطلبة للدروس، ولكنه لا يخدم الطلبة)
وفي الليلة السابقة لكتابة هذه الكلمة خلوت إلى ولد من أولادي كان من تلاميذي في الفرقة التي كنت أعلمها قبل سفري إلى السودان فسألته أن يذكر لي بصراحة رأي طلبة الفرقة في أبيه فقال:
كنت يا أبي توقظ أذهان الطلبة في أول السنة الدراسية، وتطيل المناقشة معهم، وتتوسع في الأدب العربي، وتكثر من تنبيههم إلى ما في أبيات النصوص الأدبية من معان وأغراض، فيشغلون بدرسك ويقدرونه، ولكن بعد أن مرت أشهر على ذلك أخذ الشك يساور نفوس الطلبة في جدوى هذه الطريقة بالنسبة لضخامة المنهج الذي يجب أن يتم قبل السنة الدراسية بشهر على الأقل، وكان من قولهم: يجب أن ننبه أستاذنا إلى ما فيه مصلحتنا بأن يقتصر على سرد ما في الكتاب، ويسألنا فيه في اليوم التالي، وهكذا دواليك حتى يتم المقرر في حينه ونكون قد استوعبنا ما في الكتاب ويكتب لنا النجاح في الإمتحان، وأن نلفت نظره إلى أنه ليس الغرض من تعليمنا أن نكون أساتذة في اللغة العربية. ولكن قبل أن تصل النصيحة إلى سمعي قبلت التعليم في السودان، وكفى الله المؤمنين القتال
هذه صورة مصغرة لميول الطلبة نحو تثقيف عقولهم وبخاصة في المدارس الثانوية، فهل لي أن أرجو وزارة المعارف في ضجة العلاوات والدرجات أن تجهز جيوشها السلمية لإصلاح التعليم، وتبسيط مناهجه وتحديد الغرض منه، وأن تغير النظم القديمة البالية في إدارة المدرسة وواجب المعلم والناظر والمفتش على أساس تكوين الملكات وتهذيب الأخلاق وتربية النفوس على حب العلم والرجولة الحق في الطلاب الذين تنشدهم مصر الحديثة ليستعدوا لحمل الأعباء المستقبلة. بل أقول إن ذوي المناصب الخطيرة في وزارة المعارف يجب أن يخرجوا من حيز الأوامر والمنشورات والرأي الواحد المقلد إلى مصابيح تشع النور
في معاهد التعليم، فكل هذه الجولة والصولة الغرض منها معلم يحسن أثره في التلاميذ وأن يعالجوا الأمور في جراءة وصدق وإخلاص وهم أهل لذلك
وألا يختبئوا دائماً وراء الوزير والمستشار، فإن واجب وزارة المعارف غير واجب الوزارات الأخرى وأذكر أن في أدراج صاحب العزة الدكتور طه حسين بك مشروعاً شاملاً لإصلاح التعليم وبخاصة في اللغة العربية أعدته لجنة برياسته منذ زمن وأرجو أن يبعث من مرقده والله الهادي إلى سواء السبيل.

